اطبع هذه الصفحة

الرئيسية » بحوث ومقالات الشيخ

الإيناس بذكر السَّند العالي لابن أُرْكِماس

 الكاتب: الشيخ عاطف عبد المعز الفيومي                                تحميل الملف

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، أما بعد: فهذا محاور مختصرة جعلتها في الكلام على الرواية العالية المشهورة إلى الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى، من طريق محمد بن أُرْكِماس الحنفي، وذكر بعض مقالات أهل العلم فيها، وسميتها: "الإيناس بذكر السَّند العالي لابن أُركِماس"، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

أولًا: اسمه ومولده:

اسمه على الأشهر: عضد الدين محمد بن أُرْكِماس اليشبكي النظامي الجركسي الحنفي، نسبة لنظام الدين محمد بن الجيبغا أبو اليسر وأبو المعالي الناصري الحنفي الحنفي، لكونه ابن أخته وتكفل برعايته بعد موت أبيه، من أهل غيط العدة بمصر، ولد سنة 842هـ.

وقيل: محمد بن محمد بن خليل بن أُرْكِماس، وقيل: محمد بن خليل بن إبراهيم بن عبد الله ابن أُرْكِماس، وقيل: أحمد بن محمد بن خليل بن أُرْكِماس، وقيل: محمد أيجي بغا، وبعضهم يبدل السين شينًا فيقول: أُركِماش، وضبطها الأشهر بضم الهمزة، وسكون الراء والكاف، لكن تكسر الكاف تخفيفًا، لتعذر الجمع بين الساكنين، والله أعلم([1]).

ثانيًا: نشأته وشيوخه وطلبه للعلم:

مات أبوه وهو صغير، فرباه خاله مكافأة لأبيه أُرْكِماس، فهو المربي لنظام الدين، وحفظ القرآن، والشاطبيتين، والمنار، والكنز، وألفية ابن مالك وغيرها، وعرض بعضها وهو ابن عشر على الحافظ ابن حجر وغيره، واشتغل على ابن الديري، وسيف الدين الزين قاسم، وآخرين منهم خاله، وكتب على ياسين، وحج غير مرة منها في سنة إحدى وتسعين في البحر، وجاور حتى رجع مع الموسم في أول التي تليها، ودخل دمياط وإسكندرية، وكتب بخطه الكثير لنفسه وغيره، وجمع تذكرة له في مجلدات، واجنمع بالحافظ السخاوي غير مرة، وحضر بعض الدروس، وكان لطيف الذات، كثير الأدب، كما ذكر السخاوي([2]).

ثالثًا: أشهر الآخذين عنه:

من أشهر الرواة الآخذين عن ابن أُرْكِماس الحنفي كما جاء في بعض أثبات وفهارس المتأخرين:

1- محمد بن محمد حجازي الواعظ الشعراوي المصري.

2- مولاي الشريف محمد بن عبد الله الولاتي الحسني.

رابعًا: الكلام في الرواية عن الحافظ ابن حجر وغيره من طريق ابن أُركِماس:

اشتهر في بعض أثبات المتأخرين وإجازاتهم ما يسمى بأعلى الأسانيد إلى الحافظ ابن حجر، من طريق ابن أُرْكِماس الحنفي، وفد رويناه عن جماعة من مشايخنا الأجلاء من طرق كثيرة، أعلاها ما أنبأنا به الشَّيخ المعمر عبد الرحمن بن شيخ بن علوي الحبشي، عن أبي النصر الخطيب الدمشقي، عن عبد الرحمن الكزبري، عن مرتضى بالزبيدي، عن أحمد الزعبلي، عن محمد بن علاء الدين البابلي، عن محمد حجازي المعروف بالواعظ، عن محمد بن أُرْكِماس اليشبكي الحنفي، عن الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني.

ح. وعاليًا بدرجة: يروي الوجيه الكزبري، عن صالح الفلاني العمري المدني، عن محمد بن محمد بن سنة الفلاني، عن مولاي الشريف محمد بن عبد الله الولاتي الحسني، عن محمد بن خليل المعروف بابن أُرْكِماس الحنفي، عن الحافظ ابن حجر.

ولا شك أن الرواية عن الحافظ ابن حجر العسقلاني، من طريق محمد بن أُرْكِماس الحنفي تحتاج عند أهل الفن والتحقيق إلى بحث ونظر وتدقيق، وإن كانت مشهورة في أثبات المتأخرين وكتبهم، وكونه أحد تلاميذ ابن حجر الآخذين عنه، ولا يزال المشايخ يذكرونها في الإجازات والأثبات، حتى أن المحبي قال في "خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر" في ترجمة محمد حجازي الواعظ: "وقد تُكلم في لحوق ابن أركماس لابن حجر فاستُبعد، وأنا رأيت ترجمته في طبقات الحنفية التي ألفها القاضي تقي الدين اليمني، فقال فيها: محمد بن أُرْكِماس اليشبكي عضد الدين النظامي، نسبة للنظام الحنفي لكونه ابن أخته، ولد سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، ومات والده وهو صغير، فرباه خاله المذكور، وحفظ القرآن والشاطبية، والمنار، والكنز، وألفية ابن مالك، وغيرها، وعرض على ابن حجر وغيره، واشتغل على ابن الديري والزين قاسم وغيرهما، وحج غير مرة، وكتب بخطه الكثير، وجمع تذكرة في مجلدات، وكان لطيف الذات، حسن الصفات، غزير الأدب"([3]). اهـ.

قال المحبي معلقًا على ما نقله:

"وأنت إذا عرفت مولده لم تستبعد أنه أخذ عن ابن حجر فإن وفاة ابن حجر في سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة فقد ثبت بهذا الوجه لحوقه لابن حجر وأما لحوق صاحب الترجمة فمسلم لا مطعن فيه وبالجملة فقد نال صاحب الترجمة بهذا السند شأنا عظيماً وله مشايخ كثيرون يبلغون ثلثمائة شيخ وعنه أخذ الشمس البابلي وعامة الشيوخ المتأخرين بمصر ومن الدمشقيين"([4]). اهـ.

قال الفيومي: وقد تتبعت ما ذكره ونقله المحبي في "خلاصة الأثر"، حتى وجدت ترجمة له ذكرها الحافظ السخاوي في "الضوء اللامع"، تكاد تكون هي ما ذكرها المحبي، حيث قال السخاوي:

"محمد بن أُرْكِماس اليشبكي عضد الدين النظامي، نسبة لنظام الحنفي، لكونه ابن أخته، ولد سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، ومات أبوه وهو صغير، فرباه خاله مكافأة لأبيه أُرْكِماس، فهو المربي لنظام، وحفظ القرآن والشاطبيتين، والمنار، والكنز، وألفية ابن مالك وغيرها فيما زعم، وأنه عرض بعضها وهو ابن عشر على شيخنا وغيره، واشتغل على ابن الديري، وسيف الدين الزين قاسم، وآخرين منهم خاله، وكتب على ياسين، وحج غير مرة منها في سنة إحدى وتسعين في البحر، وجاور حتى رجع مع الموسم في أول التي تليها، ودخل دمياط وإسكندرية، وكتب بخطه الكثير لنفسه وغيره، وجمع تذكرة في مجلدات، واجنمع بي غير مرة، وحضر بعض الدروس، وهو لطيف الذات، كثير الأدب"([5]). اهـ.

ونقل عبد الحي الكتاني في "فهرس الفهارس" في ترجمة حجازي الواعظ كلام المحبي الذي تقدم، الذي يفيد في توثيق رواية ابن أُرْكِماس عن الحافظ ابن حجر، ولم يعقب عليها بشيء، سوى ارتفاع سنده وكثرة مشايخه يعني محمد حجازي([6]).

لكن لما ذكر أبو المعالي محمد بن عبد الرحمن الغزي العامري في كتابه "ديوان الإسلام" ابن أُرْكِماس، قال: "محمد بن أيجي بغا الحنفي المصري"، ثم شدد عليه أبو المعالي بقوله: "الذي زعم بعد مائة وخمسة وعشرون سنة من وفاة الحافظ ابن حجر العسقلاني أنه ممن أخذ عنه! ومع هذا التفرد لم يأخذ عنه إلا هذا الفرد المخصوص وهو الشيخ محمد حجازي المصري الواعظ، فاعتبروا يا أولي الأبصار، توفي سنة 980هـ"([7]). اهـ.

ثم اطلعت على رسالة "تعطير الأنفاس بذكر سند ابن أُرْكِماس" للكوثري، وقد تتبع فيها بعض المصادر منها ما ذكرت آنفًا، وذكر أن تأييد المحبي لأخذ ابن أُرْكِماس عن ابن حجر تعويلًا على ترجمته في طبقات التميمي لا غبار عليه، ولكن الإشكال في مسألة تعميره إلى سنة 980هـ، لانفراد حجازي الواعظ بهذا النبأ، وهذا الإسناد، لكن بتتبع بعض الأثبات للمتأخرين كقطف الثمر للفلاني وغيره، نجد رواية الشريف الولاتي أيضًا عن ابن أركماس، وهذا يزيل الشك المتعلق بانفراد الشيخ حجازي الواعظ بالرواية عنه.

ثم ذهب في الأخير إلى أن ذكر اسم ابن أُرْكِماس في بعض الكتب والأثبات وقع فيه خلط في بعض الأحيان! مما يوحي بتلاعب بعض الأقلام في بعضها! فبعضها يذكره أنه المعمر "أحمد الساكن" بغيط العدة بمصر، وبعضهم يسميه "محمد خليل ابن أُرْكِماس"، وبعضهم يجعله بالشين "أُركِماش"، وبعضهم عن شهاب الدين "أحمد الجركسي"، ومن المحتمل أن يكون الجركسي هذا هو شيخ حجازي الواعظ، فتكون رواية الواعظ: عن أحمد الجركسي، عن أبيه محمد بن أُرْكِماس، عن ابن حجر.

ويكون تاريخ الوفاة المذكور 980هـ، هو تاريخ وفاة أحمد دون أبيه، ويكون أبوه قد وافته المنية قبل ذلك ذلك بسنوات طويلة في حدود سنة 920هـ، لأن تعميره 138 سنة أمر يحتمل الشك، لندرته في تلك القرون! لا سيما بين العلماء([8]). اهـ.

خامسًا: الاحتمالات الواردة بشأن رواية ابن أُركِماس:

قلت: والذي ذكره الكوثري في رسالته جيد ووجيه في الجملة، والأمر لا يزال في حاجة إلى بحث وتأمل، فإن من المحتمل أيضًا عدة أمور:

الأول: أن يكون هناك خطأ في تاريخ وفاة المعمر محمد ابن أُرْكِماس الحنفي، الذي ذكره أبو المعالي الغزي حيث قال: أنه توفي سنة 980هـ، وتكون وفاته متقدمة على هذا التاريخ المذكور، ويكون إدارك الواعظ له وهو صغير السن، وعليه فلا إشكال في روايته عنه.

الثاني: أن يكون هناك وهم أو سقط في الإسناد في المصادر الأولى في الرواية عنه، فتكون رواية حجازي عنه بواسطة ابنه على سبيل المثال أو الحقيقة، إذا ثبت أن ابنه له رواية في الحديث، ثم انتشر بعد ذلك في بقية المصادر اللاحقة، لكن لا يعلم على الحقيقية ما هو هذا الوهم أو السقط، وذلك لعدم الوقوف على شيء يؤكده، سوى الشك في تعمير ابن أُرْكِماس 138 سنة، ثم إن اسمه ليس محررًا على وجه الدقة في المصادر والأثبات، هل هو أحمد الجركسي ابن أُرْكِماس؟ أم محمد بن محمد بن أحمد -أو أحمد بن محمد- بن خليل ابن أُرْكِماس؟ أو محمد بن خليل بن إبراهيم بن عبد اللّه؟ أم هو اسم واحد نقله الرواة اختصارًا في كتبهم؟

الثالث: أن يكون محمد بن أُرْكِماس، قد وقع في شيء من التدليس في روايته عن الحافظ ابن حجر، ولعل هذا ما جعل الغزي العامري يقول عنه: "الذي زعم بعد مائة وخمسة وعشرون سنة من وفاة الحافظ ابن حجر العسقلاني أنه ممن أخذ عنه!"، إلا أن الرواة عنه كالشيخ حجازي، والشريف الولاتي الحسني، لم يتهمه أحد منهما بالتدليس، ولا حتى الشمس السخاوي الذي ذكر شيئًا من ترجمته، بل وأثنى عليه بالخير بأنه لطيف الذات، وكثير الأدب، ولا اتهم أحد أيضًا الشيخ حجازي الواعظ في روايته عن ابن أركماس المعمّر، ممن روى عنه كالشمس العلاء البابلي، وعبد الباقي الحنبلي التميمي.

ومع وجود هذه الاحتمالات المتعددة وغيرها فمن الممكن أيضًا أن تكون مع ما ذكرنا غير صحيحة بالمرة، وأن يكون الرجل قد عُمّر بالفعل عُمرًا طويلًا دون غيره من أهل زمانه، والله تعالى على كل شيء قدير، وما ذلك عليه بعزيز، وقد رأينا من عُمّر في زماننا إلى قريب من الثلاثين بعد المائة، بل وروينا عن بعض شيوخنا المعمرين، فهذا شيخنا المعمّر اثنين وعشرين سنة بعد المائة عبد الرحمن بن شيخ بن علوي الحبشي([9])، الذي يروي عاليًا جدًا عن أبي النصر الخطيب الدمشقي، الذي هو شيخ شيخ شيوخنا، وقد أدرك سنوات من حياته، وأدرك إجازته أيضًا لآل الحبشي وهي ثابتة صحيحة، كما سمعنا وقرأنا أيضًا عن بعض المعمّرين من عامة الناس في زماننا في وسائل الإعلام، وقد بلغ أحدهم مائة وأربعين سنة، فالله تعالى وحده يزيد في الخلق ما يشاء، والله أعلم.

سادسًا: خلاصة الكلام في رواية ابن أُركِماس:

ويمكننا في الختام أن نذكر خلاصة الكلام فيما ذكرنا وبينا، حول مسألة الرواية من طريق ابن أُرْكِماس، فنقول:

1- إن احتمال أخذ محمد بن أُرْكِماس عن الحافظ ابن حجر العسقلاني، احتمال قوي جدًا، بل نقله السخاوي بقوله: "وأنه عرض بعضها وهو ابن عشر على شيخنا وغيره"، وأكده بعده المحبي بقوله: "وأنت إذا عرفت مولده لم تستبعد أنه أخذ عن ابن حجر فإن وفاة ابن حجر في سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة فقد ثبت بهذا الوجه لحوقه لابن حجر"، ثم إنه لم يُتهم في روايته بشيء يذكر فيما ظهر، إلا ما قاله أبو المعالي الغزي.

2- إن أكثر المصادر والأثبات للمتأخرين التي تكلمت وذكرت رواية ابن أُرْكِماس، قد نقل في الأغلب بعضها عن بعض من غير تحقيق يذكر، مثل قطف الثمر للفلاني، وفهرس الفهارس للكتاني، وحصر الشارد لمحمد عابد السندي، ونَقْل المحبي في خلاصة الأثر عن تقي الدين التميمي، وهكذا، حتى أنهم لم يحرروا اسمه على وجه الدقة واليقين.

3- إن الشيخ محمد حجازي الواعظ لم ينفرد وحده بالرواية عن ابن أُرْكِماس الحنفي، بل ظهر من تتبع بعض المصادر رواية الشريف الولاتي عنه أيضًا([10])، وربما آخرين لم يعرفوا بعد.

4- إن الاختلاف الوارد في طريق رواية ابن أُرْكِماس إنما مرده في الأكثر إلى مسألة التعمير من جانب، والإدراك من جانب آخر، وهذه هي التي ينبغي أن تحرر بعد البحث والتدقيق ورفع الإشكال.

5- إن الرواية بالسند العالي المشهور المذكور آنفًا إلى الحافظ ابن حجر، من طريق محمد بن أُرْكِماس، تبقى رواية مضطربة غير موثوق فيها، ولا يعول على شهرتها، حتى تتبين معالمها، والله أعلم([11]).

 

نشر في شبكة الألوكة

____________________________________

([1]) انظر: خلاصة الأثر، للمحبي، والضوء اللامع، للسخاوي.

([2]) انظر: الضوء اللامع (131/م7) للسخاوي.

([3]) انظر: خلاصة الأثر (176/م4) لمحمد المحبي.

([4]) نفس المصدر.

([5]) انظر: الضوء اللامع (131 وما بعدها/م7) للسخاوي.

([6]) انظر: فهرس الفهارس (1125/م2) لعبد الحي الكتاني.

([7]) انظر: ديوان الإسلام (197/م1) لأبي المعالي الغزي العامري.

([8]) انظر: تعطير الأنفاس بذكر سند ابن أركماس، لمحمد زاهد الكوثري، بتصرف.

([9]) انظر: الفيض الوهبي في أسانيد وفوائد الحبيب المعمر عبد الرحمن بن شيخ الحبشي العلوي.

([10]) انظر: قطف الثمر لصالح الفلاني، وحصر الشارد لمحمد عابد السندي، وفهرس الفهارس لعبد الحي الكتاني.

([11]) مصدر المقال: ثبت: فتح الرب العلي إلى مرويات وأسانيد الفيومي، للكاتب.

 

 

   
 

 
 

  العودة إلى الخلف       

  اطبع هذه الصفحة

أضف هذا الموقع للمفضلة لديك