اطبع هذه الصفحة

الرئيسية » بحوث ومقالات الشيخ

إليكم شباب الإسلام ووصايا وتوجيهات

(الشباب والوقت نعمتان يجب اغتنامهما)

 الكاتب: الشيخ عاطف عبد المعز الفيومي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد صلى الله عليه وآله أجمعين. أما بعد: فإليكم يا شباب الإسلام، وعماد الأمة، وطريق العطاء، ومعقل البناء، وجيل النصر والتمكين، إليكم هذه الكلمات، وإليكم هذه الوصايا والتوجيهات، أقدِّمها لكم؛ عسى الله تعالى أن ينفع بها أنفسًا، ويَهدي بها قلوبًا، ويرفع بها هِمَمًا، فاسمعوا أيُّها الشباب المسلم، وخذوا من الكلام أطيبه، ومن الحديث أصحه وأثبته، وإنِّي لأوجز مقالي ورسالتي في نقاطٍ ومَحاور محددة إليكم، فأقول*:

الشباب والوقت نعمتان يجب اغتنامهما:

· الشباب نعمة واختبار:

عليكم - أيها الشباب المسلم - أن تعلموا أولاً أنَّ وُجودكم في هذه الحياة الدُّنيا نعمة من الله تعالى عليكم، تستوجب شكرَ الله عليها، كما قال تعالى في كتابه: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: 29]، وقال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الروم: 40]، وقال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [الروم: 54].

وأنَّ هذا الوجودَ في دار الحياة الدنيا ليس هو الوجود الخالد الباقي، كلاَّ، بل إنَّه وجودٌ مُؤقت وقليل، وأمَّا النعيم الحق، وأما الخلود الدائم الباقي الأبدي، فهو في الدار الآخرة عند لقاء الله تعالى هنالك؛ حيث يُجازى كلُّ مكلف من الإنس والجن بعمله، ورحمة رَبِّه، وقد أخبرنا الله تعالى عن هذا كله في كتابه، وعلى لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ ` أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ` وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ` وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ` وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ [السجدة: 18 - 22].

كما أنَّ عليكم أن تعلموا أنَّ الشباب مرحلة وجزء من أهم مراحل عمر الإنسان، الذي وهبه الله تعالى لكم، وأنَّكم محاسبون عليه، مجزيون به، مسئولون عنه أمامَ الله تعالى فيجب عليكم اغتنامُ هذه الدرة الثمينة من أعماركم، وشغلها بطاعة ربكم ونبيكم صلى الله عليه وسلم، وفيما يعود عليكم بالنفع والخير والصلاح في الدنيا والآخرة، كطلب العلم النافع، بحفظ القرآن والسنة، والتفقه في الدين، ونشره وتعليمه للناس، والحرص على العمل الصالح، والصلوات في المساجد، وقيام الليل، والحرص على الدعوة إلى الله تعالى، والجهاد في سبيل الله تعالى، والمشاركة في الأعمال الخيرية والتطوعية، والكسب والعمل الطيب الحلال، وغيرها من الأعمال النافعة الصالحة، التي تنفع الإنسان في الدنيا والآخرة، وتشغل أوقاته وأيامه وشبابه فيما يعود عليه بالخير والنفع والصلاح له ولأمته، كما يجب عليكم أن تحذروا أيضًا أشد الحذر من الوقوع في الغفلة بإضاعة مرحلة الشباب خاصة، وأوقاتكم عامة فيما لا نفع فيه ولا خير ولا صلاح، .

ولهذا جاء في الحديث: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هَرَمِك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"؛ رواه الحاكم، وقال: "صحيح على شرطهما"، وصححه الألباني.

وعن أبي بَرْزَة رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تزول قدما عبد يومَ القيامة حتى يُسألَ عن أربع: عن عمره، فيمَ أفناه؟ وعن علمه، ما عمل به؟ وعن ماله، من أين اكتسبه، وفيمَ أنفقه؟ وعن جسمه، فيمَ أبلاه؟"؛ رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني.

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره، فيمَ أفناه؟ وعن شبابه، فيمَ أبلاه؟ وعن ماله، من أين اكتسبه، وفيمَ أنفقه؟ وعن علمه، ماذا عمل فيه؟"؛ رواه البزار والطبراني بإسناد صحيح واللفظ له، وصححه الألباني.

بل وقد ورد أيضًا أنَّ في الجنة شبابًا، وكذلك كل أهلها، وأن الحسن والحسين رضي الله عنهما، سَيِّدا شباب أهل الجنة، ففي الحديث عن أبي سعيد الخدري وحذيفة بن اليمان، وعلي بن أبي طالب وغيرهم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"؛ أخرجه الحاكم والترمذي، وصححه الألباني.

وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخاطِب الشباب، ويُناديهم بطاعة الله تعالى، بالحرص على مرحلة الشباب بفعل الطاعات، والبعد عن الذنوب والفواحش والمحرمات، ويعدهم بالجزاء الأوفى في جَنَّاتِ النعيم؛ ففي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا شبابَ قريش، احفظوا فروجَكم، لا تزنوا، ألاَ من حفظ فرجَه، فله الجنة"؛ رواه الحاكم والبيهقي وصححه الألباني. وفي رواية حسنة للبيهقي: "يا فتيانَ قريش، لا تزنوا، فإنَّه من سلم له شبابه، دخل الجنة"، ألاَ فاجعلوا من شبابكم طريقًا نحو المعالي، واجعلوا من شبابكم طريقًا نحو الخير والإحسان، واجعلوا من شبابكم طريقًا نحو العز والنصر والتمكين.

· الحذر من إضاعة الأعمار والأوقات:

واحذروا أشدَّ الحذر؟ من هدر الشباب والعمر في غير طاعة واجتهاد، أو إضاعته في الذُّنوب والسيئات، فإنَّ الخاسر يومَ القيامة من يَجد نفسَه بلا حسنات تثقل ميزانه، فيرجو يومَها ويتمنَّى العودة إلى دار العمل، فلا يُجاب، كما أخبر الله تعالى عن هذا الصنف في كتابه؛ فقال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾ [المؤمنون: 99 - 104].

كما يجب عليكم أن تعلموا أنَّ وقتكم هو رأس مالكم، فإنْ ضاع الوقت والزمان في غير فائدة وثمرة مرجوة، فقد خَسِر الإنسان جزءًا من عمره وشبابه؛ لأنَّ استثمار الأوقات والساعات في طاعة الله ورضاه وعبادته، هو الخير كله، وهو السعادة كلها، كما أنَّ إضاعتها هو الغبن كله؛ فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ))؛ رواه البخاري.

وإذا تدبرنا آياتِ القرآن رأينا أنَّ الله تعالى قد أقسم بالليل والنهار، والفجر والصبح والضحى، والعصر وغيرها من الأوقات من الليل والنهار، وما ذاك إلا لنعلمَ آيات قدرته في الخلق، واستثمار هذه الأوقات فيما شرعه سبحانه، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 190 - 191].

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْيَوْمَ أَسْرَعُ ذَاهِبٍ          وَأَنَّ غَدًا لِلنَّاظِرِينَ قَرِيبُ

وقد سأل الفضيل بن عياض رجلاً، فقال له: كم أتت عليك؟ قال: ستون، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك، توشك أن تبلغ، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون.

ومما يؤسف القلبَ حقًا أنَّ كثيرًا من المسلمين اليومَ إلا من رحم الله تعالى أصبح لا يهتم بوقتِه ولا شبابه، وصار يهدره في غير فائدة مرجُوَّة، أو ربما في كثير من الذنوب والمعاصي والسيئات، وفيما لا نفع فيه ولا خير ولا صلاح في الدنيا ولا في الآخرة.

كمن يضيع أيامه وأوقاته وشبابه ويقطع الليل مع النهار؛ في اللهو واللعب والسهر الذي لا مصلحة فيه، والجلوس في أماكن الفارغين مع رفقة السوء وأصحاب الغيبة والنميمة، أو الجلوس في المقاهي والطرقات، ولعب الأوراق والقمار، وشرب الدخان والمخدرات، وإضاعة الأوقات والأعمار بالساعات الطوال أمام الشاشات والفضائيات، وشبكات الإنترنت لمشاهدة المسلسلات والأفلام الخليعة والإباحية البهيمية، والتي فيها من مشاهد العُري والفاحشة والزنا ما الله به عليم، وفيها من إماتة الغَيْرة والرجولة والحياء ما فيها، وفيها من نشر الفاحشة والمنكرات بين المسلمين ما فيها، فضلًا عن سماع الغناء الفاجر، واللهث وراء المعاكسات والعلاقات المحرمة مع النساء والفتيات، واللهث وراء الموضات والفتنة والشهوات، والتقليد الأعمى للفساق والكفار، والتكاسل عن تحصيل الكسب الحلال بالجد والاجتهاد والعمل، وهذا والله أمرٌ قبيحٌ جدًا في حق المسلم العاقل، الذي يؤمن بالله ورسوله، ويؤمن بالجنة ونعيمها، والنار وعذابها، والله المستعان.

ولهذا يقول علي رضي الله عنه، فيما يروى: "إنَّما أخشى عليكم اثنتين: طول الأمل، واتباع الهوى، فإن طولَ الأمل يُنسي الآخرة، وإن اتباع الهوى يصدُّ عن الحق"، وقال عون: "كم من مُستقبلِ يومٍ لا يستكمله، ومُنتظرٍ غدًا لا يبلغه، لو تنظرون إلى الأجل ومسيره، لأبغضتم الأمل وغروره"، وقال الشاعر:

دَقَّاتُ قَلْبِ الْمَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ       إِنَّ الْحَيَاةَ دَقَائِقٌ وَثَوَانِي

إنَّ الغفلةَ عن الوقت والاستفادة من الأزمان والأعمار خطرٌ عظيم؛ لأنَّ الغفلة آفةٌ قاتلة، وداءٌ عُضال فتَّاك، وطريق يكثُر فيه السالكون إلاَّ مَن رَحِم الله تعالى ،دبَّ هذا الداء في جَسَد الأمَّة الإسلامية منذ عدَّة قرون، وأقعَدها عن سبيلها، وأوْهن مِن قُواها، وشغلها أيَّما شغل عن رسالتها وغايتها في هذه الحياة الدُّنيا، والمتأمِّل في آيات القرآن يرى أنَّ الله تعالى قد أنذر وحذَّر مِن هذا الداء المهلِك، الذي أصابَ الأُمم، وأقعدَها عن السَّبِيل الأَمَمِ، بل وحلَّ بها عقاب الله تعالى المعجَّل، كما قال تعالى في كتابه لرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ﴿لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [يس: 6 - 7].

· حال السلف مع الوقت وحفظه:

وقد كان سلفنا الصالح ومن بعدهم يَحرصون على حفظ أوقاتِهم وأيامهم فيما يرجع عليهم بالفائدة في الدُّنيا والآخرة، فهذا أبو الوفا بن عقيل، يقول: "إنِّي لا يَحل لي أنْ أضيع ساعةً من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن المذاكرة، وتعطل بصري عن المطالعة، أعملت فكري في حال راحتي، وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره"، ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزدد فيه عملي"، وقال ابن القيم: "إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأنَّ إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها".

وقال الحسن البصري: "لقد أدركت أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشدَّ حرصًا منكم على أموالكم"، وكان ابن الجوزي إذا دخل عليه مَن يظن فيه تضييع وقته، كان يشغل نفسه بالقيام ببَرْيِ الأقلام، وقص الأوراق حتى لا يضيع وقته.

· معرفة الصحابة غايتهم ورسالتهم:

ولا تنسوا - أيها الشباب - أنَّ الذين أسلموا مع رسول الله في أولِ دَعوته، والذين نصروه وهاجروا وجاهدوا معه كان جُلُّهم من الشباب. فأبو بكر الصديق كان أصغرَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك مُصعب بن عمير من الشباب، وعلي بن أبي طالب، والأرقم بن أبي الأرقم، وغيرهم كثير، ممن أسلموا في أول العهد المكي، ثم انطلقوا يَحملون رسالةَ التوحيد والعبودية لله تعالى لكل العالمين، وكانت العبادة وتعبيد الناس لله تعالى هي الغاية والمنطلق عندهم، ففتحوا البلادَ شرقًا وغربًا بالإسلام والإيمان، يبلغون رسالاتِ الله ويَخشونه، ولا يَخشون من أحدٍ سواه تعالى لأنَّهم علموا غايتهم ورسالتهم في الحياة، وعلموا لماذا أوجدهم الله تعالى وعلموا صدق ما أعد لهم في دار كرامته وفي جنته في الآخرة، فانطلقوا نحو غايتهم ورسالتهم، وقد أخبر الله عنهم في كتابه الخالد، فقال تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ` مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ` لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 22 - 24].

ولما ثبت النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من جيل الدعوة الأول، وصبروا على الكيد والمكر، والصد والاستهزاء، والإعراض والإغراء، وتركوا كلَّ متاعهم وأموالهم، بل نساءهم وأبناءهم وعشيرتهم لله ورسوله، وكانوا مثالاً واقعيًّا للثبات على المبادئ والحق، والتضحية الصادقة من أجله ونصرته، لما كان هذا حالَهم، مَكَّن الله لهم في الأرض، وأَذِنَ لهم بالتمكين الموعود لأهل الحق والإيمان، والتوحيد والمتابعة، فلقد أذن لهم بالهجرة إلى المدينة ولرسوله؛ تَمهيدًا لعالم ومجتمع إسلامي جديد، مجتمع لا يعرف الجاهلية، ولا يعرف الشرك والوثنية، ولا يعترف بألوهية المخلوقات، ولا بفساد المعاملات، ولا بقيام الحروب والعداوات من أجل لا شيء، ولا يستمد شرائعه وأخلاقه من تصوُّرات بشرية، أو عقائد وأفكار رومانية أو نصرانية، مجتمع لا تتملقه النفوس الدنيئة من أصحاب الشهوات الرخيصة.

لقد أزالت الهجرةُ كلَّ ذلك، فالهجرة تَجبُّ ما قبلها، لقد قام صرحٌ شامخ للإسلام ودعوته بعد عِدَّة محاولات للهجرة والبناء للحبشة، وزالت غربةُ الإسلام والرسالة الأولى، ولم تعُد غريبة على أرض الجزيرة، بل ظهرت كالشَّمس المنيرة في رابعة النهار، وعلا صوتُ الحق والإيمان على أبواق الجاهلية الخاوية، زالت الغربة بهذا التمكين، الذي قام على أكتاف خِيَرَةِ البشر بعد الرُّسل، إنَّهم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم مَن قضى نَحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلاً، وكما جاء في الحديث النبوي: "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا، فطوبى للغرباء".

فالمقصود: أنَّ الصحابةَ الكرام أدركوا حقيقةَ وجودهم في هذه الحياة، فقاموا بغايَتِهم خيرَ قيام، وعمروا شبابهم وأوقاتهم في طاعة الله ورسوله، وجاهدوا في الله خَيْرَ جهاد، وهم القدوة والأسوة الحسنة لنا في ذلك، فعلينا أن نَجعلهم مثلاً أعلى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بهم نحتذي، وبهم نقتدي. وفرقٌ بعدَ هذا بين شبابٍ لا يعلمون لهم في هذه الحياة غايةً يسعَوْن إليها، ويَجدُّون من أجلها، أو يَجعلون لهم غاياتٍ وأهدافًا خسيسة هزيلة، من العشقِ المُحرَّم مع النساء، واللهو والطرب، والتسكُّع في الطرقات بلا رقيب، وحصول المعاكسات والعبارات القاتلة لمعاني الإيمان والحياء، فرق بين هؤلاء وبين شَبابٍ عَلِموا غايتَهم ورسالتَهم، فأعلوا الهِمَم إليها، وشَمَّروا عن ساعد الجد والعمل لتحقيقها، ولا ريب أنَّ هؤلاء هم الفائزون الرابحون في خاتمة المطاف؛ ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].

وإنَّ من أجَلِّ ما تستفاد به الأوقات والأزمان أن يعلم المسلم غايتَه وأهدافه في حياته، فيعمل على تحقيقها، والقيام بحَقِّها، وشغل الوقت والجوارح بها، والعبادة: هي غايتنا الكبرى، ورسالتنا في الحياة، وفي العبادة شغلٌ أيّما شغل، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

· حث النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة والشباب على العبادة:

بل إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، أيها الشباب - كان يحث أصحابَه على العبادة والقيام، وغير ذلك من سائر العبادات، وكان يأمرهم بها، ويُربِّيهم على الاستزادة منها، والحرص عليها، ويعلمهم فيها ما ينفعهم، ويُحذِّرهم من التكاسُل عنها، واقرؤوا معي هذه الأحاديث؛ لتعلموا فقهَ النبي صلى الله عليه وسلم في تربية وتوجيه الصَّحابة الكرام رضي الله عنهم، فعن عليٍّ رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلاً، فقال: "ألاَ تصليان"؛ متفقٌ عليه.

وعن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، عن أبيه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل"، قال سالمٌ: "فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً"؛ متفقٌ عليه. وعن عبدا لله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله ، لا تكن مثل فلانٍ، كان يقوم الليل فترك قيام الليل"؛ متفقٌ عليه.

وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ نام ليلةً حتى أصبح، قال: "ذاك رجلٌ بال الشيطان في أذنيه"، أو قال: "في أذنه"؛ متفقٌ عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم، إذا هو نام - ثلاثَ عقدٍ، يضرب على كل عقدةٍ: عليك ليلٌ طويلٌ فارقد، فإن استيقظ، فذكر الله تعالى انحلت عقدةٌ، فإن توضأ، انحلت عقدةٌ، فإن صلى، انحلت عقدة، فأصبح نشيطًا طيبَ النفس، وإلاَّ أصبح خبيثَ النفس كسلان"؛ متفقٌ عليه.

وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيامٌ، تدخلوا الجنة بسلامٍ"؛ رواه الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، قال ابن عثيمين رحمه الله: ""وصلوا بالليل والناس نيام"، اللهم اجعلنا من هؤلاء، ربَّما كان أحسن وألذ النوم ما كان من بعد منتصف الليل إلى الفجر، فإذا قام الإنسانُ في هذا الوقت لله - عزَّ وجلَّ - يتهجد، يتقرب إليه بكلامه، وبدُعاءٍ خاشع بين يديه، والناس نائمون، فهذا من أفضل الأعمال. "صلوا بالليل والناس نيام"، وهذا محل الشاهد من هذا الحديث أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم جعل الصلاةَ بالليل من أسبابِ دخول الجنة، والثَّواب، قال: "تدخلوا الجنة بسلام" تسلم عليك الملائكة؛ ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ` سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 23 - 24]، يهنئونهم بما صبروا وبهذا الثواب العظيم". انتهى.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل"؛ رواه مسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدةٍ"؛ متفقٌ عليه.

فهذه الأحاديث والنصوص تبين لنا كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في امتثاله لأمر الله تعالى وقيامه بالعبادة في الليل، وكيف أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يربي أصحابه عليها، ويَحثهم ويرشدهم إلى فعلها، وفي هذا درس تربوي جليل لكل شاب ومربٍّ وكل داعية إلى الله تعالى ألاَّ يأمر الناس حتى يفعل، وألاَّ يدعو الناسَ إلى شيء يقوم هو بفعل ما ينقضه أو يخالفه، فإنَّ هذا من القبح عند الله تعالى بمكان، كما قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ` كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2 - 3].

وفي هذا عبرة لنا أنَّ العبادة من القيام بالليل، وتلاوة القرآن، وتدبره - زادٌ من الإيمان، وزاد من التربية والإعداد، وزاد من الهداية والثبات على حمل الرِّسالة وأدائها، كما بَيَّنَ الله تعالى في آيات المزمل: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ [المزمل: 6]. قال الشنقيطي رحمه الله: "قوله تعالى: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ [المزمل: 6]؛ أي: ما تنشئه من قيام الليل أشدُّ مُواطأةً للقلب، وأقوم قيلاً في التلاوة والتدبر والتأمُّل، ومِن ثَمَّ بالتأثر، ففيه إرشاد إلى ما يقابل هذا الثقل فيما سيلقى عليه من القول، فهو بمثابة التوجيه إلى ما يتزود به لتحمل ثقل أعباء الدعوة والرسالة".

وفي هذا التعبد والقيام بالليل ثمرة أخرى، وحصاد آخر؛ فعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بقيام الليل، فإنَّه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم"؛ رواه الترمذي وحسنه الألباني.

فاحرصوا أيها الشباب على الاستفادة من أيامكم وشبابكم وأعماركم في طاعة الله تعالى، وفيما يعود عليكم وعلى أمتكم بالنفع والخير والصلاح، والله الموفق والمعين.

_________________________

* من كتاب: إليكم يا شباب الإسلام، للشيخ عاطف الفيومي.

 

   
 

 
 

  العودة إلى الخلف       

  اطبع هذه الصفحة

أضف هذا الموقع للمفضلة لديك