اطبع هذه الصفحة

الرئيسية » بحوث ومقالات الشيخ

المنهج السلفي تعريفه وخصائصه

 الكاتب: الشيخ عاطف عبد المعز الفيومي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد صلى الله عليه وآله أجمعين. أما بعد: فهذه وقفات مختصرة مع تعريف السلفية وحقيقتها، وذكر بعض خصائص المنهج السلفي، ونقول وبالله العون والرشاد.

أولًا: تعريف السلفية وحقيقتها:

 كلمة (السلف) من حيث اللغة([1]): لها عدة دلالات واستعمالات، منها؛ أنها: أصل يدل على تقدم وسبق، فيقال: سلف يسلف سلفًا وسُلُوفًا، أي مضى وانقضى، فهو سَالِفٌ، والجمع سَلَفٌ وسُلَّافٌ، مثل خدم وخدام، ثم جمع السَّلَفُ على أَسْلافٍ، مثل سبب وأسباب، والقَوْمُ السُّلاَّف المُتَقَدّمون، وسَلَفُ الرَّجُل آباؤه المتقدّمون، وسلف الإنسان من تقدمه بالموت من آبائه وذوي قرابته، ولهذا سُمي الصدر الأول من التابعين السلف الصالح، ومنه قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ}، فأكثر استعمالاتها تدل على التقدم والسبق والمضي.

أما السلفية من حيث الاصطلاح: فهي نسبة إلى السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم، وطريقتهم في الفهم والتطبيق، ولها تعاريف متقاربة، منها؛ أنها: اتباع الكتاب والسنة، والعمل بهما، وفهمهما وفق طريقة السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم من أهل القرون الثلاثة المفضلة، ومن تبعهم بإحسان، في العقيدة، والعبادة، والأخلاق، وسائر مناحي الحياة.

وقد جاء في الصحيحين من حديث عمران بن حصين، أن رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم قال: «إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» -قال عمران: فلا أدري أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قرنه، مرتين أو ثلاثة-: «ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن»، فبين النبي ‏صلى الله عليه وسلم أن خير قرون الأمة القرن الذي بعث فيه رسول الله ‏‏صلى الله عليه وسلم من جيل الصحابة رضي الله عنهم، فقال: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم».

وروى البخاري في صحيحه، من حديث أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان، فيغزو فئام من الناس، فيقولون: فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان، فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان، فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم».

ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم، كل بدعةٍ ضلالة». وجاء عن الأوزاعي أنه قال: «اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم». وقال أيضًا: «عليك بآثار السلف وإن رفضك الناس، وإياك ورأي الرجال وإن زخرفوه لك بالقول، فإن الأمر ينجلي وأنت منه على طريقٍ مستقيم».

وروي عن الحسن البصري أنه كان في مجلس؛ فذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: «إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفا، قومًا اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فإنهم ورب الكعبة على الهدى المستقيم».

وقال الإمام الآجرِّي -رحمه الله-: «نأمر بحفظ السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنن أصحابه رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان، وقول أئمة المسلمين مثل: مالك بن أنس، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وابن المبارك، وأمثالهم، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والقاسم بن سلام، ومن كان على طريقة هؤلاء من العلماء رضي الله عنهم، وننبذ مَن سواهم، ... هكذا أدبنا من مضى من سلفنا([2])».

ويقول الإمام أحمد –رحمه الله-: «أصولُ السُّنَّة عندنا: التمسُّك بما كان عليه أصحابُ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم، والاقتداءُ بهم».

ولهذا قال السفاريني -رحمه الله-: «المراد بمذهب السلف: ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، وأعيان التابعين لهم بإحسان، وأتباعهم، وأئمة الدين ممن شهد له بالإمامة، وعُرف عظم شأنه في الدين، وتلقى الناسُ كلامَهم خلفاً عن سلف، دون من رُمي ببدعة، أو شُهر بلقب غير مُرض، مثل الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، والجبرية، والجهمية، والمعتزلة، والكرامية، ونحو هؤلاء([3])». انتهى.

وعلى هذا فإن مصطلح السلف يكون مرادفًا لمصطلح أهل السنة، لأنه: «اشتهر حين ظهر النزاع، ودار حول أصول الدين بين الفرق الكلامية، وحاول الجميع الانتساب إلى السلف، وأعلن أن ما هو عليه هو ما كان عليه السلف الصالح، فإذن لا بد أن تظهر والحالة هذه أُسسٌ وقواعد واضحة المعالم، وثابتةٌ للاتجاه السلفي، حتى لا يلتبس الأمر على كلِّ من يريد الاقتداء بهم، وينسج على منوالهم([4])».

ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-:  «لا عيبَ على من أظهر مذهب السلف، وانتسب إليه، واعتزى إليه، بل يجب قَبولُ ذلك منه بالاتِّفاق، فإنَّ مذهب السلف لا يكون إلَّا حقًّا([5])». انتهى.

والمسلمون الأوائل لم يكونوا في حاجة إلى اسم يميزهم عن غيرهم من الأمم كاليهود والنصارى والفرس وغيرهم، سوى اسم الإسلام، أما لما دبت الفتن والبدع وأصحاب الكلام في أمة الإسلام، كانت الحاجة ماسة إلى تمييز المتمسكين بالسنة الحقة من غيرهم، لأن أهل البدع يزعمون في كل عصر ومصر تمسكهم بالكتاب والسنة، وهم في الحقيقة أبعد الناس عنهما.

وبهذا ندرك أن السلفية على حقيقتها هي طريقةٌ واتجاه في الفهم والعمل والتطبيق للكتاب والسنة، فقد يكون الرجل في عصر الصحابة والتابعين من القرون الثلاثة الأولى المفضلة، ومع ذلك لا يعد من السلف، وقد يأتي بعدهم ويكون منهم.

ولهذا يصح أن نقول: إن السلفية أيضًا: هي الاتجاه المقدم للنصوص الشرعية على البدائل الأخرى منهجاً وموضوعاً، الملتزم بهدي الرسول ‏‏صلى الله عليه وسلم، وهدي أصحابه علماً وعملاً، المطرح للمناهج المخالفة لهذا الهدي في العقيدة والعبادة والتشريع. أو هي: اصطلاحٌ جامع، يُطلق للدلالة على طريقة منهج السلف الصالح في تلقي الإسلام وفهمه والعمل به، وللدلالة على التمسك بهذا المنهج، والعض عليه بالنواجذ إيماناً وتصديقاً واتباعاً، ويقوم هذا المنهج على ثلاثة قواعد هامة وأصيلة، وهي: صحة المعتقد، وصحة المنهج، وصحة السلوك.

والدعوة السلفية بهذا المعنى ليست جماعة أو طائفة أو حزبًا، ولا تنتسب لشخص أو عالم أو مؤسسة دينية أو علمية، بل السلفية هي دعوة الحق والإسلام الصحيح، الذي أمر الله به في كتابه، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، كما قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} {الأعراف: 3}، وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} {النساء:115}، وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {التوبة:100}.

أما السلفيون فهم أهل السنة، ويقال لهم أهل الحديث، والطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، وهو اختلاف تنوع، وهم الذين يتمسكون بالكتاب والسنة، ويلتزمون بما التزم به السلف الصالح، ويسيرون على طريقتهم، على اختلاف أجناسهم وأقطارهم وتخصصاتهم العلمية والدعوية وغيرها، كما قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {التوبة:100}، وجاء في الحديث عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة». رواه أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن صحيح.

وجاء أيضًا في الحديث المشهور حديث الافتراق الذي وقعت فيه الأمم، والذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة».قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: «من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي». وفي بعض الروايات: «هي الجماعة». رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.

وفي الحديث أيضًا عن ثوبان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك». وفي رواية: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس»، وفي رواية: «لا يزال طائفة من أمتي على الحق منصورين، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله عز وجل»، وفي رواية: «ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيمًا حتى تقوم الساعة»، وفي رواية: «لن يبرح هذا الدين قائمًا، يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة»، وفي رواية: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال» رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه.

وجاء أيضًا في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء». رواه مسلم، وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طوبى للغرباء»، قلنا: وما الغرباء؟ قال: «قومٌ صالحون قليل في ناس سوءٍ كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» رواه أحمد.

ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وهذه الفرقة الناجية "أهل السنة" وهم وسط في النحل؛ كما أن ملة الإسلام وسط في الملل».

ويقول أيضًا: «ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها أهل السنة والجماعة، وهم الجمهور الأكبر، والسواد الأعظم، وأما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء، ولا تبلغ الفرقة من هؤلاء قريبًا من مبلغ الفرقة الناجية، فضلًا عن أن تكون بقدرها، بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلة، وشعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنة والإجماع، فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة([6])». انتهى.

*   *   *

ثانيًا: الخصائص  العامة  للمنهج  السلفي:

بعد أن عرفنا معنى السلف والسلفية، فإنه يمكننا أن نشير إلى بعض الخصائص العامة والسمات المميزة، التي تميز المنهج السلفي ودعوته عن غيره، وذلك في نقاط مختصرة:

أولًا: المنهج السلفي منهج قائم على التأصيل الشرعي:

نعم إنه منهج قائم على التأصيل الشرعي، وتقديم أدلته الصحيحة الواضحة على كل مسألة، منهج ليس فيه تأصيل مخالف للكتاب والسنة وما أجمعت عليه الأمة، وليس فيه تأصيل يوافق مناهج أهل البدع والأهواء، إلا أنهم هم يوافقوه أحياناً لأنه الحق، ويخالفونه مرات ومرات، وليس فيه اتباع على غير بصيرة وعلم، ولكن منهج قائم على الاستدلال الصحيح، والتأصيل القويم، والفهم السديد، والحجة الواضحة.

فمن تأصيلات المنهج لزوم اتباع الكتاب والسنة الصحيحة الثابتة، والحذر من اتباع الأهواء والبدع، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]، وكما جاء في الحديث: «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا». ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فعليكم بسنتي».

ومن تأصيلات المنهج الاهتمام بالعقيدة والتوحيد في البناء الدعوي والإيماني، وترسيخ ذلك في النفوس، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 24].

ومن تأصيلات المنهج تقديم النقل على العقل، مع الاعتقاد بعدم تعارض العقل مع النقل، ولا النقل مع العقل، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]. وقال ابن عباس رضي الله عنه: «توشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر، وقال عمر».

ومن تأصيلات المنهج البعد عن التأويل الكلامي المرجوح، لأن فتح هذا الباب تقع المفاسد والتأويلات الكلامية التي مصيرها إلى نقض عرى الإسلام، وتمييع شرائعه وعقيدته، فما خرج الخوارج إلا من هذا الباب، وما وقع من فتن وأصحاب أهواء وتأويل فاسد فقتلوا الصحابة، وسفكت دمائهم، وكان ما كان بينهم، وأمرهم جميعاً إلى الله.

ومن تأصيلات المنهج لزوم الجماعة مع حسن السمع والطاعة لولاة الأمر في غير معصية أو إظهار كفر عندنا فيه من الله برهان، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59].

ومن تأصيلات المنهج صحة العقيدة، وصحة العبادة، وصحة السلوك والأخلاق، إذ من دونها ينحرف الإنسان، ويخالف الصراط المستقيم، إذ إن انحراف العقيدة يوقع صاحبه في أبواب من الزيغ والضلال، ويوقع في البدع والأهواء، وكذلك العبادة والسلوك، فلا بد للسالك في هذا المنهج أن تصح له هذه الطرق.

ثانيًا: المنهج السلفي منهج حياة شامل:

وهذا المنهج ليس منهجًا قاصرًا عن مواكبة أحداث الحياة والعصر، وليس منهجًا ناقصًا يعتريه الخلل والخطأ، إنما هو منهج حياة شامل وكامل صلح به المسلمون الأوائل، ومكنوا به، وشموليته تعني دخول جميع مجالات الحياة البشرية في منهجه، من حياة الإنسان الخاصة، وإلى حياة الأمم والعالم، فمن شموليته دخول العقيدة والعبادة والأخلاق في منهجه، ودخول شئون المعاملات والتجارات والاقتصاد والسياسة، ومجالات العلم والبحث والفكر والتربية، وشئون الحكم والسلطان، والحرب والسلم، وأحكام الأسرة المسلمة، وغير ذلك مما يتعلق بجميع شئون الإنسان في الحياة، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة:3]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].

ومن صلاحيته أنه لا ينتهي عند زمان أو مكان، ولكنه صالح لكل أهل زمان وعصر، ولكل أهل مكان ومصر، ولا يصلح الزمان ولا المكان إلا به، فهو باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105].

يخطيء قوم حينما يعتقدون أن هذا المنهج ثوب أبيض قصير، وسواك في الفم، ولحية تعفى، وعبارات وألفاظ لا يتخطاها المسلم في كلامه، كلا، إن كل هذا مطلوب شرعاً، سواء أكان من الفرائض والواجبات، أم كان من السنن والمستحبات، ولكنه لا يعني أن المنهج قاصر على هذا فحسب، بل إن هذا الدين كبير وعظيم، أكبر من أن يحتويه عمل عامل، أو علم عالم، فلتكن نظرتنا صحيحة مستقيمة، إنما هو منهج حياة كامل، إن منهجنا عقيدة وعبادة، وأخلاق وتربية، وأقوال وأفعال، ودنيا وآخرة، ومعاملات وآداب، وسياسة واقتصاد، وتشريع وأحكام.

ثالثًا: المنهج السلفي تجديدي لا تقليدي:

والمتأمل في طبيعة هذا المنهج يراه على خلاف ما يرميه به أعداءه وخصومه، بأنه منهج تقليدي ليس فيه تجديد وإنما هو دعوة للعودة للقديم والتقليد في شتى مجالات الحياة! ولا ريب أن هذا وهم حقيقي، وادعاء باطل، ليس له في حقيقة الأمر من نصيب، لأنه مبني على مغالطات بعيدة كل البعد عن الاستقراء التاريخي لمنهج السلف على حقيقته، كما أنه بعيد أيضاً عن طبيعة ومقومات هذا المنهج، كما أنه مخالف لواقع المنهج نفسه، لأن مدرسة السلف كلها مدرسة تجديدية بطبيعتها، تأنف التقليد الأعمى، وترد القول الخطأ على قائله، بل وتعمد إلى فتح باب الاجتهاد بضوابطه الشرعية الصحيحة عند الحاجة والمصلحة، بخلاف القائلين بإغلاقه، أو المتفلتين من ضوابطه، إلى جانب أنها عُمّرت كثيراً بالمجددين على طول التاريخ الإسلامي، من أمثال الخليفة عمر بن عبد العزيز، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل، وخاتمة الحفاظ وشيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب التميمي، ومجدد العصر ناصر الدين الألباني وغيرهم، رحمهم الله جميعاً.

كما أننا نتنبه إلى أمر خطير وهو الفارق بين التجديد الشرعي الوارد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، على رأس المائة عام، وبين التجديد الذي يدعوا له اليوم دعاة الباطل، والذي في مجمله يعني التخلي الصريح عن أحكام الإسلام وتشريعاته، لأنها في نظرهم انتهت صلاحيتها منذ القرون الأولى السالفة، فالتجديد عندهم، أن نختلق تشريعات بشرية قاصرة من جديد، بعيداً عن نور السماء ووحي الله المعصوم، لتتناسب في زعمهم مع العصر الحديث!

 وقد بدا لنا من خلال تطورات الأحداث في الحقبة الأخيرة، كم عمل حملة المنهج على تصفيته وتجديده من كل ما علق به على طول التاريخ من الأهواء والبدع والمخالفات، التي غيرت كثيراً من ملامح المنهج الإسلامي الصافي، سواء من أهله وأتباعه، أو من مخالفيه وأعداءه، وهذا ما نحاول إبرازه والوقوف عليه من خلال حديثناً عن هذا المنهج السلفي والحاجة إليه، وأنه منهج يحمل كل مقومات التمكين العقيدية، والتعبدية، والأخلاقية، والتشريعية، والاقتصادية، والسياسية، وغيرها من المقومات اللازمة لبناء أي حضارة وتقدم، وبيان موقف المخالفين لهذا المنهج الرباني، وحقيقة الأمر أنني هنا أحاول الوقوف على أهمية منهج السلف ومتابعته، وكونه الطريق المتعين للتمكين للأمة، وبيان موقف من خالفه، ولست أُعنى هنا بموضوع التجديد نفسه فإن له مجالاً آخر.

 

*   *   *


([1]) انظر:  معاجم اللغة وكتبها، كالمصباح المنير، ولسان العرب، ومختار الصحاح، وغيرها.

([2]) انظر: كتاب الشريعة للآجري، ص (71).

([3]) انظر: لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية.

([4]) يراجع: الصفات الإلهية، للشيخ محمد أمان الجامي.

([5]) انظر: مجموع الفتاوى، (149/ج 4).

([6]) انظر: مجموع الفتاوى، (246/ج 3).

 

 

   
 

 
 

  العودة إلى الخلف       

  اطبع هذه الصفحة

أضف هذا الموقع للمفضلة لديك