اطبع هذه الصفحة

الرئيسية » بحوث ومقالات الشيخ

العلمانية الناعمة وثوابت الإسلام

 الكاتب: الشيخ عاطف عبد المعز الفيومي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد صلى الله عليه وآله أجمعين. أما بعد: تحدَّثنا في إشارات وكتابات سابِقة عن العلمانيَّة وأصولها وأهدافها، أمَّا حديثنا الآن فعن صورة أخرى متلونة للعلمانيَّة، وهي ما يسمِّيه بعضُ الكتَّاب والمفكِّرين بـ "العلمانية الناعمة"، تلك الصورة الجديدة المعاصرة التي ظهرَت وانتشرَت بعد الثَّورات التي قامت في بعض البلاد العربيَّة والإسلاميَّة؛ كتونس ومصر وليبيا وغيرها.

والمقصود بالعلمانيَّة النَّاعمة:

ذلك الاتجاه أو الخطاب العلماني الجديد الذي يَهدف إلى مواجهة المدِّ الإسلامي بكلِّ اتجاهاته الفكريَّة والدعويَّة، عن طريق تمرير المصطلحات والمفاهيم العلمانيَّة، ومحاولة إلباسها اللباس الشَّرعي، أو إعطائها الصبغة الإسلاميَّة، وبهذا يمكنه الوصول لأكبر شَريحة من المجتمع والشباب، وهي كما نرى محاولة يائسَة بائسة لا تُريد الصدامَ المباشِر مع الإسلام والاتجاهات الدَّعوية على مختلف مشاربها؛ لأنَّهم يعلمون أنَّ المصارحَة بأفكارهم الخَبيثة الماكِرة لا يمكن للمجتمع المسلِم أن يتقبَّلها أو يمرِّرها، فضلاً عن السُّكوت عنها.

فالمناداة بالحريَّة، والوطنيَّة، والقوميَّة، والديمقراطيَّة، والتعددية الحزبية، وحقوق المرأة، وحقوق الأقلِّيات، والتعايش السِّلمي مع الآخر وقَبوله، وفتح باب الاجتهاد لكل أحد لأنَّه ليس في الإسلام كهنوت على حدِّ زَعمهم، ومحاربة التطرُّف والغلوِّ والإرهاب في العالم، والتنوير والتطوير، ومقاصد الشريعة وروح الإسلام - كلُّها مصطلحات ومفاهيم وأوهام يحاولون من خلال الحديث عنها، وإلباسها ثياب الدِّين الوسطي المعتدل، باسم محاربة الغلو والتطرف، والمحافَظة على الوطن والهويَّة - تمريرَها على العقول، وبالتالي تكون النتيجة هي الْتباس المفاهيم والقِيَم الإسلاميَّة الصَّحيحة وثوابت الدِّين على كثيرٍ من النَّاس، خاصة ممَّن لا عِلم عندهم بالشَّرع، ولا ثقافة تحميهم من فِتنة العلمانيَّة والتدليس والتلبيس.

ومثال ذلك:

ما سمعته وربما سمعه ألوفٌ من الناس عبر بعض الفضائيَّات؛ بأنَّ العقيقة التي تكون للطفل بعد ولادته ليسَت من عادات المسلمين، بل من عادات اليهود! وأنَّ الحجاب للمرأة المسلِمة تخلُّفٌ ورجعيَّة! وأنَّ نقاب المرأة المسلمة عادة يهوديَّة إسرائيلية مأخوذة من التلمود! ولا علاقة له بدين الإسلام، وأنَّه من التشدُّد المذموم! وأنَّ إعفاء اللحية للرجال عادة من عادات العرَب، ليست فريضة إسلاميَّة ولا سنَّة نبويَّة!

وأنَّ صحيح البخاري ليس بصحيح، وصاحبه لا يَدري عن الحديث شيئًا! وأنَّ شرب الدخان في نهار رمضان لا يفطر الصائم وليس بحرام! وأنَّ الفوائد والعوائد البنكيَّة ليست من الرِّبا المحرَّم الذي حرَّمه اللهُ ورسوله!

وأنَّ عري النِّساء وفجورهنَّ باسم الفن والإعلام، وممارسة الفنَّان بعض الفواحِش والمنكرات ليس عملاً محرَّمًا؛ إنَّما هو رسالة الفنِّ لإحياء الشعوب وترويح النفوس!

وأنَّ السياحة التي يدخل فيها العري والفجور وشرب الخمور، ودور الغناء والرَّقص والدعارة، والفواحش والمنكرات - كلُّ ذلك حريَّة شخصيَّة، لا يَمنعها الإسلام، بل يَمنعها المتطرِّفون والمتشدِّدون! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ومع هذا الشرِّ كله يَخرج أحدُهم ليقول بأنَّ الاجتهاد بابٌ مفتوح لكلِّ أحد، خاصة إذا كان من النُّخبة أو التنويريين أو العقلانيين، وليس حكرًا على الإسلاميين أو شيوخ الدِّين وحدهم - على حدِّ زعمهم - وأنَّ من حقِّنا أن نقول في الدِّين ما نشاء، ونَختار منه ما يَنفع لحياتنا المعاصرة، وما يخدم نظامَ حياتنا الجديد، وما عدا هذا من الدِّين، فلا يلزمنا في شيء!

هذه الأمثلة القليلة التي أشرنا إليها يتغنَّى بها كثيرٌ من المنتفعين والمنافِقين في اللَّيل والنَّهار في القنوات الفضائيَّة، والجرائد اليوميَّة، والكتب والمجلات الدَّورية على شتَّى صنوفها واتِّجاهاتها الفكريَّة والنفعية، قاصدين بذلك محاولة إيقاف المدِّ الإسلامي والفِكري الصَّحيح في عقول أبناء وشباب الأمَّة الإسلامية شرقًا وغربًا.

لكنَّنا نقولها بصراحة ووضوح: إنَّ الإسلام دين الله تعالى، والله قد تكفَّل بحفظه إلى يوم الدين من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33]، ولا يمكن لأيِّ أمَّة أو مذهب أو قوَّة مهما بلغَت أن تنال منه، أو توقِف مسيرتَه الخالدة على مدى التاريخ؛ لأنَّه دين ربِّ العالمين، ثمَّ إنَّ الإسلام بطبيعته يمرُّ بين مرحلتين من الغُربة في بداية ظهوره وأول أمره، وبين عودته للقيادة والرِّيادة في آخر الزَّمان، كما جاء في الحديث المعروف المحفوظ عند الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((بدأ الإسلامُ غريبًا، وسيعودُ كما بدأ غريبًا، فطُوبى للغُرباء)).

وقد جاءت كتب السِّيرة والسنَّة والتاريخ بذلك؛ فالغربة الأولى للإسلام قد مُحيَت ببعثة النَّبي صلى الله عليه وسلم والتمكين له ولأصحابه رضي الله عنهم، وبَقِيت الآن الغربة الثانية لعودة هذا الدِّين من جديد، وعودة مَنهجه إلى حياة النَّاس وواقعهم، وهذا أمر يَأخذ من الجهد والبَذل والتضحية والثَّبات الشيء الكثير والكبير، ولكن مع الصِّدق والمجاهدة تؤتي دعوةُ الإسلام ثمارَها بإذن الله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].

فالواجب على أمَّة الإسلام أن تَحذر هذا الاتجاه العلماني النَّاعم الجديد، أن ينال منها أو من عقيدتها ويقينها بهذا الدِّين شيئًا، وأن يقف العلماءُ والدُّعاة وطلاب العِلم والحق والسنَّة موقفًا قويًّا مؤثرًا واضحًا، في القنوات والفضائيَّات، والجرائد والمجلات، والصُّحف والدوريات، ومنابر المساجد والثقافة والجامعات، لِكَشف عوار أهل الباطل والوجوه المتلوِّنة الخادعة البرَّاقة، التي لا زالَت تحثُّ الخطى في إضلال الأمَّة الإسلاميَّة، وتَسعى بكلِّ ما تَملك لطَمس هويَّتها، وإضعاف قوَّتها، ولكن هيهات، فالله غالِب على أمره ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون.

كما يَنبغي أن نَعلم أنَّ المستقبل القريب لهذا المنهج الربَّاني، وهذا وَعد الله تعالى ولا ريب، كما قال تعالى: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة: 21]، وكما قال أيضًا: ﴿ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الصافات: 173]، ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55].

وهذه الآيات القرآنيَّة شواهد على صِدق وَعد الله تعالى لعباده وأوليائه، ونصوص السنَّة النبويَّة الصَّحيحة عند مسلم ومسند أحمد وغيرهما شواهد على ذلك، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله زَوى لي الأرضَ، فرأيتُ مشارقَها ومغاربَها، وإنَّ أمَّتي سيَبلغ مُلكها ما زُوي لي منها، وأُعطيتُ الكنزين الأحمر والأبيض، وإنِّي سألتُ ربِّي لأمَّتي أن لا يهلكَها بسَنَة عامَّة، وأن لا يسلِّط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتَهم، وإنَّ ربِّي قال: يا محمد، إنِّي إذا قضيتُ قضاء فإنَّه لا يُردُّ، وإنِّي أعطيتك لأمَّتك أن لا أُهلكهم بسَنَة عامَّة، وأن لا أسلِّط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم يستبيح بيضَتهم، ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها - أو قال: من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يُهلِك بعضًا، ويَسبي بعضهم بعضًا)).

نشر في شبكة الألوكة

   
 

 
 

  العودة إلى الخلف       

  اطبع هذه الصفحة

أضف هذا الموقع للمفضلة لديك