اطبع هذه الصفحة

الرئيسية » بحوث ومقالات الشيخ

مذهب الخليفة علي بن أبي طالب في الصحابة والخلافة

 الكاتب: الشيخ عاطف عبد المعز الفيومي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد صلى الله عليه وآله أجمعين. أما بعد: فإنَّ كتابَ "الشريعة" للإمام "أبي بكر محمد بن الحسين الآجري"، المتوفَّى سنة 360 للهجرة - كتابٌ نفيس ومُهِم، وقد جمع فيه - رحمه الله تعالى - أبوابًا وكتبًا نفيسة في العلم والاعتقاد، فيما يتعلق بمعرفة الله - تعالى - والإيمان به، ومعرفة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكذلك التعرُّف على فضائل الصحابة الكرام وآل البيت - رضي الله عنهم جميعًا.

وقد شرع الإمام الآجري في هذا الكتاب وتصنيفه، لما رأى من انتشار البِدَع والأهواء، ومخالفات كثيرة لأدلة الوَحْيَيْنِ؛ الكتاب والسنة، فشرع في هذا الكتاب؛ ليُبينَ للناس الطريقَ المستقيم، ويُحذرهم من البدع والأهواء والتفرُّق في الدين، وجعله كتبًا وأبوابًا، ووَضَع تَحت كلِّ باب منها ما يؤكده ويعضده من النصوص من القرآن والسنة والبيان أيضًا.

والكتاب - ولا ريب - على مَذْهَب أهلِ السنة والجماعة ومُعتقدهم، دون غيرهم من الفرق المخالفة، وهو من المؤلفاتِ البديعة في الاعتقاد، وإن كان لا يَخلو من مُلاحظاتٍ مُهِمَّة[1] أشار إليها بعضُ أهل العلم، لكنْ كلٌّ يؤخذ من كلامه ويترك، إلاَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.

وهذه بعضُ وقفاتٍ أحسبها مهمة[2] حول إثباتِ فضيلة الصَّحابي الجليل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وما ثبت عنه في حَقِّ أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كأبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم جميعًا - وقفت عليها من كلمات الإمام الآجري، مع زيادة بيان وتوضيح.

وما ذلك إلا لأَمْرَيْنِ:

الأول: للرَّدِّ على الفرق المخالفة لأَهْلِ السنة في شأن الصَّحابة - رضي الله عنهم - وفي مُقدمتهم الشيعةُ الإمامية الاثنا عشرية، الذين يذمُّون الصَّحابةَ، ويرمونهم بالمروق والكفر، بل ويَتَبَرّؤُون منهم.

الثاني: لإظهار القول الحق في مَحَبَّة الصحابة بعضهم لبعض، وأنَّ عَلِيًّا - رضي الله عنه - كان مُجِلاًّ لأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - ومُحِبًّا لهم، وما كان منه في حَقِّهم إلا حِفْظ السبق لهم والتفضيل.

الوقفة الأولى: فضائلُ الخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والبيعة له بالخلافة:

جملة فضائل لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:

إنَّ الحديثَ عن فضائل الخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حديثٌ لا تُحصيه الكلمات، وحسبنا أنَّه صحابي جليل، ومُجاهد كبير، وأميرٌ للمؤمنين، ومظهر للحق المبين، ومجاهد للخارجين والمارقين، وصاحب المناقب الجليلة، والمواقف الكبيرة الشهيرة.

وإنَّ فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كثيرة وجليلة، وقد صَنَّف أئمةُ أهل السنة في فضائله أبوابًا وفُصُولاً منثورة في كُتُبهم، فهذا شيخُ المحدثين البخاري - رحمه الله - يقول: "باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن - رضي الله عنه"، وهذا الإمام مسلم يقول: "باب من فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه"، والترمذي صاحب السنن يقول: "باب مناقب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه"، والإمام أحمد يقول: "من مسند علي بن أبي طالب - رضي الله عنه".

وقال الإمام الآجري - رحمه الله -: "أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - شرَّفه الله الكريم بأعلى الشرف، سوابقه بالخير عظيمة، ومناقبه كثيرة، وفضله عظيم، وخَطَرُه جليل، وقَدْره نبيل، أخو الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وابن عمه، وزوج فاطمة، وأبو الحسن والحسين، وفارس المسلمين، ومفرج الكرب عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقاتل الأقران، الإمام العادل، الزاهد في الدُّنيا، الراغب في الآخرة، المتبع للحقِّ، المتأخر عن الباطل، المتعلق بكُلِّ خلق شريف، الله - عزَّ وجلَّ - ورسوله له مُحِبَّان، وهو لله والرسول محب، الذي لا يُحبه إلا مؤمن تقي، ولا يبغضه إلاَّ منافق شقي، معدن العقل والعلم، والحلم والأدب - رضي الله عنه"[3].

ومن فضائل علي - رضي الله عنه -: محبة الله ورسوله له، وإعلاء مكانته ومنزلته، ففي الحديث عن زيد بن أرقم أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن كنت مولاه فعلي مولاه))؛ رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني.

وعن أبي العباس سهل بن سعدٍ الساعدي - رضي الله عنه - "أنَّ رَسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال يومَ خيبر: ((لأعطين الراية غدًا رجلاً يفتح الله على يديه، يُحِبُّ الله ورسوله، ويحبه اللهُ ورسوله))، فبات الناسُ يدُوكون ليلَتَهم أيُّهم يعطاها، فلما أصبح الناس غَدَوْا على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كلهم يرجو أن يُعطاها، فقال: ((أين عليُّ بن أبي طالبٍ؟))، فقيل: يا رسول الله، هو يشتكي عينيه، قال: ((فأرسلوا إليه))، فأُتِيَ به، فبَصَقَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في عينيه، ودعا له، فبَرَأ حتى كأَنْ لم يكن به وجعٌ، فأعطاه الراية، فقال عليٌّ - رضي الله عنه -: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: ((انفُذْ على رِسْلِك حتى تنزلَ بساحتهم، ثم ادعُهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يَجب عليهم من حَقِّ الله - تعالى - فيه، فوالله لأَنْ يَهْدِي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حُمْرِ النَّعَم))؛ متفقٌ عليه.

وفي الحديث عن سعد بن أبي وقاص قال: قدم معاوية في بعضِ حَجَّاتِه، فدخل عليه سعد، فذكروا عليًّا، فنال منه، فغضب سعد، وقال: تقول هذا لرجل سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((من كنت مولاه، فعَلِيٌّ مولاه))، وسمعته يقول: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلاَّ أنه لا نَبِيَّ بعدي))، وسمعته يقول: ((لأعطين الراية اليومَ رجلاً يُحِبُّ الله ورسوله))؛ رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.

ومن فضائل علي - رضي الله عنه -: أنَّه لا يبغضه إلا منافق، ولا يحبه إلاَّ مؤمن، فعن عليٍّ قال: "لقد عهد إلَيَّ النبي الأمي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه ((لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق))"؛ رواه الترمذي والنسائي، وصححه الألباني.

ومن فضائل علي - رضي الله عنه -: تزويجه بفاطمة - رضي الله عنها - بنت النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحبيبته، خَصَّه الله الكريم بتزويجه بها.

استحقاقه - رضي الله عنه - للبيعة والخلافة:

بالنظر إلى واقع الصَّحابة والأمة من بعد مقتل الخليفة الراشد عثمان، فإنَّه لم يكنْ بعد عثمان - رضي الله عنه - أحدٌ أحَقّ بالخلافة من عليٍّ - رضي الله عنه؛ لِمَا أَكْرَمه الله - عزَّ وجلَّ - به من الفضائل التي خَصَّه الله الكريم بها، وما شرفه الله - عزَّ وجلَّ - به من السوابق الشريفة، وعظيم القدر عند الله - عزَّ وجلَّ - وعند رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعند صحابته - رَضِيَ الله عنهم - وعند جميع المؤمنين، قد جمع له الشَّرف من كل جهة، ليس من خَصْلَة شريفة إلاَّ وقد خَصَّه الله - عزَّ وجلَّ - بها: ابن عَمِّ الرسول، وأخو النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وزوج فاطمة الزَّهراء - رضي الله عنها - وأبو الحسن والحسين ريحانتا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومن كان النبيُّ له مُحبًّا، وفارس العرب، ومُفَرِّج الكرب عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمر الله - عزَّ وجلَّ - نبيه بالمباهلة لأهلِ الكتاب لَمَّا دَعَوه إلى المباهلة، فقال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ﴾ [آل عمران: 61]، فأبناؤنا وأبناؤكم: فالحسن والحسين - رضي الله عنهما - ونساؤنا ونساؤكم: فاطمة بنت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنفسنا وأنفسكم: علي بن أبي طالب - رضي الله عنه[4].

ومناقب علي - رضي الله عنه - وفضائله أكثرُ من أن تُحصى.

ولقد أكرمه الله - عزَّ وجلَّ - بقتالِ الخوارج، وجعل سيفَه فيهم وقتاله لهم سيفَ حقٍّ إلى أن تقومَ الساعة، فلما قُتِلَ عثمانُ بن عفان - رضي الله عنه - وبرأه الله من قَتْلِه، وأفضت الخلافةُ إليه كما روى سفينة وأبو بكرة عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الخلافة بعدي ثلاثون سنة)).

فلما مضى أبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - كان علي - رضي الله عنه - الخليفة الرابع، فاجتمع الناس بالمدينة إليه، فأبى عليهم، فلم يتركوه، فقال: فإنَّ بيعتي لا تكون سرًّا، ولكن أخرج إلى المسجد، فمن شاء أن يُبايعني بايعني، فخرج إلى المسجد، فبايعه الناس[5].

قال مُحمد بن الحسين - رحمه الله -[6]: فهذا مَذهَبُنا في عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه الخليفة الرابع، كما قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الخلافة ثلاثون سنة))[7].

الوقفة الثانية: استقامته على طريق أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - وفيه الرد على الشيعة الرَّوافض:

لم يزل عليٌّ - رضي الله عنه - منذ نشأ مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى أنْ قُبِض النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الطريق المستقيم، ثم بايع لأبي بكر - رضي الله عنه - فكان على الطريق المستقيم، فلما قُبِضَ أبو بكر، بايع عمرَ - رضي الله عنهما - فكان معه على الطريق المستقيم، فلما قُبِضَ عمرُ، بايع عثمانَ بن عفان - رضي الله عنه - فكان معه على الطريق المستقيم، فلما قُتِلَ عثمان ظُلمًا، بَرَّأَه الله من قتله، وكان قتله عنده ظُلمًا مُبينًا، ثم وليَ الخلافة بعدهم - رضي الله عنه - فكان والحمدُ لله على الطريق المستقيم، مُتَّبِعًا لكتاب الله - عزَّ وجلَّ - متبعًا لسنن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - متبعًا لأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - لم يغيِّر من سنتهم، ولم يبدل، زاهدًا في الدُّنيا راغبًا في الآخرة، مُتواضعًا في نفسه، رفيعًا عند الله - عزَّ وجلَّ - وعند المؤمنين، حتى قتل شَهيدًا، لعن الله قاتله وأخزاه في الدُّنيا والآخرة[8].

قال محمد بن الحسين - رحمه الله -: فإن قال قائل: فهل غيَّر عليُّ بن أبي طالب في خلافته شيئًا مما سَنَّه أبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم؟ قيل له: مَعاذَ الله، بل كان لهم مُتبعًا، وسيذكر من ذلك ما لا يَخفى ذكره عند العلماء ممن سلمه الله - عزَّ وجلَّ - من مذهب الرافضة والناصبة، ولزم الطريق المستقيم[9].

أمر فدك:

من ذلك أنَّ عليَّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما ولي الخلافة أجرى أَمْرَ فَدَكٍ، وقَبِلَ من أبي بكر ما سَمِعَ؛ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((لا نُورَثُ، مَا تركنا صدقة))؛ أعني: أبا بكر القائل، فلَمَّا أفضت الخلافةُ إلى عَلِيٍّ - رضي الله عنه - أجراه على ما أجراه أبو بكر، وكان عنده أنَّ الحق فيما فعله أبو بكر - رضي الله عنه - ولو كان الحقُّ عنده في غير ما فعله أبو بكر لَرَدَّه، ولم تأخُذْه في الله لَوْمَة لائم، خلاف ما قالته الرافضة الأنجاس، وهذا مشهور لا يُمكن أحد أن يقول غير هذا[10].

صلاة التراويح في شهر رمضان:

فأمَّا ما سَنَّه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلم يُغيِّره علي - رضي الله عنه - واتَّبعه على ذلك.

ولما سن عمر بن الخطاب قيامَ شهر رمضان، وجمع الناسَ عليه، أحيا بذلك سنةَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فصلاَّها الصحابة في جميع البُلدان، وصلاَّها عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - فلما أفضت الخلافة إليه، صلاها وأمر بالصلاة، وترحَّم على عمر - رضي الله عنه - فقال: نَوَّرَ الله قبرك يا ابن الخطاب، كما نورت مساجدنا، وقال: أنا أشرت على عمر بذلك، وهذا رَدٌّ على الرافضة الذين لا يرون صلاتها، خلافًا على عمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - وعلى جميع المسلمين[11].

جمع القرآن في مصحف:

وهكذا بايع علي بن أبي طالب عثمانَ بن عفان - رضي الله عنه - في جمعه المصحف، وصَوَّب رأيه في جمعه، وقال: أول مَن جمعه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وأنكر علي بن أبي طالب على طوائفَ من أهل الكوفة، ممن عاب عثمان - رضي الله عنه - بجمعه للمصحف، فأنكر عليهم إنكارًا شديدًا خلاف ما قالته الرافضة[12].

ومن أصَحِّ الدلائل وأوضح الحجج على كُلِّ رافضي مُخالف لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن عليًّا لم يزل يقرأ بما في مصحف عثمان - رضي الله عنه - ولم يغير منه حرفًا واحدًا، ولا قدم حرفًا على حرف ولا أخَّر، ولا زاد فيه ولا نقص، ولا قال: إنَّ عثمانَ فعل في هذا المصحف شيئًا لي أنْ أفعلَ غيره، لا يُحفَظ عنه شيءٌ من هذا، وهكذا ولده، لم يزالوا يقرؤون بما في مصحف عثمان - رضي الله عنه - حتى فارقوا الدُّنيا، وهكذا أصحابُ علي - رضي الله عنه - لم يزالوا يُقْرِئون المسلمين بما في مُصحف عثمان - رضي الله عنه - لا يَجوز لقائل أن يقول غير هذا، ومَن قال غير هذا فقد كَذب، وأتى بخلاف ما عليه أهلُ الإسلام.

قال محمد بن الحسين - رحمه الله -: مرادنا من هذا أن عليَّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - لم يزل مُتبعًا لِمَا سنَّه أبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - مُتبعًا لهم، يكره ما كرهوا، ويُحِبُّ ما أحبوا، حتى قَبَضه الله - عزَّ وجلَّ - شَهيدًا، الذي لا يُحبه إلاَّ مُؤمن تقي، ولا يبغضه إلا منافق شقي[13].

الوقفة الثالثة: مذهب الخليفة علي في حقِّ أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم -:

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لا يَحْفَظ عنه الصَّحابة ومَن تبعهم من التابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين إلاَّ مَحبة أبي بكر وعمرَ وعثمان - رضي الله عنهم - في حياتهم وفي خلافتهم وبعد وفاتهم.

فأَمَّا في خلافتهم، فسامع لهم مُطيع يُحبهم ويُحبونه، ويعظم قدرهم ويعظمون قدره، صادق في مَحبته لهم، مخلص في الطاعة لهم، يُجاهد من يُجاهدون، ويحب ما يحبون، ويكره ما يكرهون، يستشيرونه في النوازل؛ فيشير مشورةَ ناصح مشفق مُحب، فكثير من سيرتهم بمشورته جَرَى، فقبض أبو بكر - رضي الله عنه - فحَزِن لفقده حزنًا شديدًا، وقتل عمر - رضي الله عنه - فبكى عليه بكاء طويلاً، وقتل عثمان - رضي الله عنه - ظُلمًا، فبرأه الله - عزَّ وجلَّ - من دمه، وكان قتله عنده ظُلمًا مبينًا.

ثم ولي الخلافة بعدهم، فعمل بسنتهم، وسار سيرتهم، واتبع آثارهم، وسلك طريقهم، ورَوى عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فَضائلَهم، وخطب الناس في غير وقت، فذكر شرفهم، وذَمَّ مَن خالفهم، وتبرأ من عدوهم، وأمر باتِّباع سنتهم وسيرتهم، فرَضِيَ الله عنه وعنهم.

فلن يحبهم إلاَّ مؤمن تقي، قد وفَّقه الله - عزَّ وجلَّ - للحق، ولن يتخلف عن محبتهم، أو عن محبة واحد منهم إلاَّ شَقِي، قد خُطِّيَ به عن طريق الحق.

ومذهبنا فيهم أنَّا نقول في الخلافة والتفضيل: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي - رضي الله عنهم - ويقال - رحمكم الله -: إنَّه لا يَجتمع حبُّ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إلاَّ في قلوب أتقياء هذه الأمة، وقال سفيان الثوري - رحمه الله -: لا يَجتمع حبُّ عثمان وعلي - رضي الله عنهما - إلاَّ في قلوب نبلاء الرِّجال[14].

الوقفة الرابعة: مسألة التفضيل بين الصحابة:

أما مسألةُ التفضيل بين الخلفاء الراشدين، فقد قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - في "منهاج السنة": "وأما المفضلة الذين يفضلونه على أبي بكر وعمر، فرُوِيَ عنه أنه قال: "لا أُوتَى بأحدٍ يُفَضِّلُني على أبي بكر وعمر إلاَّ ضربته حَدَّ المفتري"، وقد تواتر عنه أنَّه كان يقول على منبر الكوفة: "خَيْرُ هذه الأُمَّة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر".

رُوي ذلك عنه من أكثرَ من ثمانين وَجهًا، ورواه البخاري وغيره؛ ولِهَذا كانت الشيعة المتقدمون كلُّهم مُتفقون على تَفضيل أبي بكر وعمر، كما ذكر ذلك غَيْرُ واحد، فهاتان البدعتان: بدعة الخوارج والشيعة - حدثتا في ذلك الوقتِ لما وقعت الفتنة"[15].

قال الآجري - رحمه الله -: حدثنا أبو سعيد الحسن بن علي الجصاص، قال: حدثنا الربيع بن سليمان، قال: سمعت الشافعي يقول: "في الخلافة والتفضيل لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم"، وهذا قول أحمد بن حنبل - رحمه الله.

فقد أثبت من بيان خلافةِ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - ما إذا نَظَر فيها المؤمنُ سَرَّه، وزاده مَحَبَّة للجميع، وإذا نظر فيها رافضيٌّ خبيث أو ناصبي ذليل مهين، أسخن الله الكريم بذلك أعينهما في الدنيا والآخرة؛ لأنَّهما خالفا الكتابَ والسنة، وما كان عليه الصحابةُ - رضي الله عنهم - واتَّبعا غَيْرَ سَبيلِ المؤمنين؛ قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115]، وقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عليكم بسُنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضُّوا عليها بالنواجذ))، فهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - ومن اتبعهم بإحسان[16].

الوقفة الخامسة: نداء إلى كل شيعي رافضي:

معاشر الشيعة:

هذه فضائلُ ومناقب أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - ومآثره، وهذا هو مذهبُه وحكمه في حَقِّ الخلفاء الراشدين من قبله أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - وهذا حبه واتِّبَاعه لهم، وهذا اقتداؤه وتأسيه بهم، ونَحن على مذهبه وعقيدته نسير ونتبع، وهذا هو مذهبُ أهلِ السنة والجماعة في حقهم، ومذهب أهل البيت - رضي الله عنهم - أنَّهم جميعًا أصحابُ الرسول وخُلفائه، وهم الراشدون المهديُّون من بعده، السائرون على منهاج نبوته، فهل أنتم مُوقنون؟ وهل أنتم مستبصرون؟! أم أنَّكم ستتبعون كثيرًا من أئمتكم في طعنهم ولَمْزهم لهؤلاء الأئمة الأعلام؟

أعْمِلُوا عقولَكم، وفَتِّشُوا كتبكم؛ لتعلموا أنَّ كَثيرًا من أئمتكم لا يأخذونكم إلى الحقِّ، ولا يرشدونكم إليه، بل إنَّهم ليضلونكم عن الصِّراط المستقيم، ويسيرون بكم في نِهاية الأمر إلى نار الجحيم؛ لأَنَّهم بطعنهم في حَقِّ الصَّحابة الكرام أبي بكر وعمر وعثمان - يُكَذِّبون اللهَ في كتابه، ويكذبون رسولَ الله في سُنَّتِه، وهذا التكذيبُ هو أقربُ طريق إلى جنهم، وساءتْ مصيرًا.

وها هو الطريقُ قد لاح أمامَكم اليومَ ووضح، وها هو الحق قد ظهر واتَّضَح، فجِدُّوا السير إلى الحق، وارفعوا الغشاوة عن أبصارِكُم لتروه ناصعًا، وارفعوا الجهالةَ عن عُقولكم وقلوبكم؛ لتروه حاضرًا وشاهدًا، وصدق الله القائل: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115].

قال محمد بن الحسين الآجري - رحمه الله -: "قد ذكرتُ من مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - وعثمان معهما المقتولِ ظُلمًا - رضي الله عنه - وعظيم قدرهم عنده - ما تأدَّى إلينا، وما فيه مبلغ لمن عقل، فمَيَّز جميعَ ما تقدم ذكرنا له، فمَن أراد الله الكريمُ به خيرًا فميز ذلك، عَلِمَ أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا - رضي الله عنهم - كما قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ [الحجر: 47].

وعَلِمَ أنَّ هؤلاء الصفوة من صحابة نبينا - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذين قال الله - عزَّ وجلَّ - فيهم: {﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100].

وكذلك جميع صحابته، ضمن الله - عزَّ وجلَّ - للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ألا يخزيه فيهم، وأنه يتم لهم يومَ القيامة نورهم، ويغفر لهم ويرحمهم؛ قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التحريم: 8]، وقال - عزَّ وجلَّ -: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29].

فنعوذ بالله ممن في قلبه غيظ لأحد من هؤلاء، أو لأحد من أهلِ بيت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو لأحد من أزواجه، بل نرجو بمحبتنا لجميعهم الرحمةَ والمغفرة من الله الكريم إن شاء الله"[17].

وقال أيضًا: "أَمْلَى علينا أبو بكر بن أبي داود في مسجد الرصافة في يوم الجمعة لخمس بقين من شعبان سنة تسع وثلاثمائة، فقال - تجاوز الله عنه -:

وَقُلْ إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ *** وَزِيرَاهُ قُدْمًا ثُمَّ عُثْمَانُ أَرْجَحُ

وَرَابِعُهُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ بَعْدَهُمْ *** عَلِيٌّ حَلِيفُ الْخَيْرِ بِالْخَيْرِ مُنْجِحُ

وَإِنَّهُمُ وَالرَّهْطُ لاَ رَيْبَ فِيهِمُ *** عَلَى نُجُبِ الْفِرْدَوْسِ فِي الْخُلْدِ يَسْرَحُ

سَعِيدٌ وَسَعْدٌ وَابْنُ عَوْفٍ وَطَلْحَةٌ *** وَعَامِرُ فِهْرٍ وَالزُّبَيْرُ الْمُمَدَّحُ

وَسِبْطَا رَسُولِ اللَّهِ وَابْنَا خَدِيجَةٍ *** وَفَاطِمَةٌ ذَاتُ الْنَّقَاءِ تَبَحْبَحُوا

وَعَائِشُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَخَالُنَا *** مُعَاوِيَةٌ أَكْرِمْ بِهِ فَهْوَ مُصْلِحُ

وَأَنْصَارُهُ الْمُهَاجِرُونَ دِيَارَهُمْ *** بِنُصْرَتِهِمْ عَنْ كَيَّةِ النَّارِ زُحْزِحُوا

وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَالتَّابِعُونَ بِحُسْنِ مَا *** حَذَوْا حَذْوَهُمْ قَوْلاً وَفِعْلاً فَأَفْلَحُوا

وَمَالِكُ وَالثَّوْرِيُّ ثُمَّ أَخُوهُمُ *** أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِي ذَاكَ الْمُسَبِّحُ

وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ *** إِمَامَا هُدًى مَنْ يَتْبَعُ الْحَقَّ يَفْصَحُ

أُولَئِكَ قَوْمٌ قَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمُ *** وَأَرْضَاهُمُ فَأَحِبَّهُمْ فَإِنَّكَ تَفْرَحُ

وَقُلْ خَيْرَ قَوْلٍ فِي الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ *** وَلاَ تَكُ طَعَّانًا تَعِيبُ وَتَجْرَحُ

ثم قال لنا أبو بكر بن أبي داود: هذا قولي وقول أبي وقول أحمد بن حنبل، وقول من أدركنا من أهل العلم، ومن لم ندرك، ممن بلغنا عنه، فمن قال عَلَيَّ غَيْرَ هذا، فقد كذب"[18].

ونحن نقول بقولهم، وندين بمنهجهم وعقيدتهم في أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وندعو الله أن يَجمعنا بهم في جنات النعيم.

_________________

[1] وذلك من مثل إيراده لعددٍ من الأحاديث الصحيحة والضعيفة، من غير أن يُبيِّن ما صَحَّ منها وما لم يصح، خاصَّة أنَّ الكتاب في تقرير عقيدة السلف.

[2] صُغت هذه الوقفات من عباراتِ الإمام الآجري، مع التعويل عليها كثيرًا، مع إدخال التصريف في بعضها لسياق الكلام، وكذلك أضفت إليها من المصادر الأخرى.

[3]"الشريعة"، ص: 548.

[4]"الشريعة"، ص459.

[5]المصدر نفسه، ص: 462.

[6] محمد بن الحسين هو الإمام الآجري - رحمه الله.

[7] المصدر نفسه، ص: 461.

[8] المصدر نفسه، ص: 462.

[9]المصدر نفسه، ص: 466.

[10] المصدر نفسه، ص: 466.

[11]المصدر نفسه، ص: 468.

[12] المصدر نفسه، ص: 469.

[13] المصدر نفسه، ص: 470.

[14]المصدر نفسه، ص: 645 - 646.

[15] "منهاج السنة"، ج1/ 213.

[16]"الشريعة"، ص: 464.

[17]المصدر نفسه، ص: 659.

[18]المصدر نفسه، ص: 738،737.

 نشر في شبكة الألوكة

   
 

 
 

  العودة إلى الخلف       

  اطبع هذه الصفحة

أضف هذا الموقع للمفضلة لديك