اطبع هذه الصفحة

الرئيسية » بحوث ومقالات الشيخ

التفكر وأثره في زيادة الإيمان

 الكاتب: الشيخ عاطف عبد المعز الفيومي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد صلى الله عليه وآله أجمعين. أما بعد:

أهمية التفكُّر والاعتبار:

إن التفكُّر وإعمال العقل في كثير من الأمور والمسائل، كثيرًا ما يكون داعًيا إلى حسن الفِعال، وحسن المآل، والنجاة من الشرور والفتن، وحِفظ الدِّين والنفس عن مواطن الهلاك والغي؛ لأن الشرع دعانا إليه في كثير من النصوص القرآنية والنبوية؛ لأن فيه حياةً للقلب والنفس، بإحياء المعاني الإيمانية والشرعية؛ فهو عبادة نافعة جامعة، وإذا بلغ التفكُّر بالقلب والنفس مبلغًا فإن له أثرًا بيِّنًا في إيقاظ القلب وهدايته؛ لأن التفكُّر لا يقف عند نوع بعينه، بل يتعدَّد ويختلف؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والنظر إلى المخلوقات العُلوية والسُّفلية على وجه التفكُّر والاعتبار، مأمورٌ به مندوب إليه‏‏"، وقال أبو سليمان الداراني: إني لأخرجُ من منزلي، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليَّ فيه نِعمة، أو لي فيه عِبرة، وعن الحسن البصري أنه قال: تفكُّر ساعة خير من قيام ليلة، وقال الفُضَيل: قال الحسن: الفكرة مِرْآةٌ تريك حسناتك وسيئاتك، وقال ابن كثير: قال سفيان بن عُيينة: الفكرة نورٌ يدخل قلبك، وربما تمثل بهذا البيت:

إذا المرء كانت له فكْرَة ..... ففي كل شيء له عبرَة

وقال لقمان الحكيم: إن طول الوَحدة ألْهَمُ للفكرة، وطولَ الفكرة دليل على طَرْق باب الجنة.

وقال وهب بن مُنَبِّه: ما طالت فكرة امرِئ قط إلا فهِم، وما فهِم امرؤ قط إلا علِم، وما علِم امرؤ قط إلا عمل.

وقال عمرُ بن عبدالعزيز: الكلام بذِكر الله - عز وجل - حَسَن، والفكرة في نِعَم الله أفضل العبادة.

ويُروى عن ابن عباس أنه قال: ركعتان مقتصدتان في تَفكُّر، خيرٌ من قيام ليلة والقلب ساهٍ.

وقال الحسن: يا بن آدم، كُلْ في ثُلُث بطنك، واشرَبْ في ثُلُثه، ودَعْ ثُلُثه الآخر تتنفَّس للفكرة.

وقال بعض الحكماء: من نظَر إلى الدنيا بغير العبرة انطَمَسَ مِن بَصَرِ قلبه بقدر تلك الغَفْلَة.

وقال بِشْر بن الحارث الحافي: لو تفكَّر الناس في عظَمة الله تعالى لَمَا عصَوْه.

وقال ابن أبي الدنيا: أنشدني الحُسَين بن عبدالرحمن:

نزهَة المؤمن الفكَرْ ..... لذَّة المؤمن العِبَرْ

وللتفكر أنواع، فمن أنواعه:

1- التفكُّر في الآيات الكونية:

كخَلْق السموات وارتفاعها، والأرض وجبالها ووِديانها، واختلاف الليل والنهار، والنجوم وأبراجها، والكواكب ومدارها، والبحار والأنهار وأمواجها، والزهور وألوانها، والنباتات وأنواعها، والفواكه واختلافها، والملائكة والجِن والإنسان وتكوينه، والحشرات والزواحف والطيور بعوالمها، وسائر الآيات الكونية، التي هي من عظيم صنعة الله في الكون والنفس، والدليل على وجودِ الله ووحدانيته وكماله؛ ولهذا جاء في القرآن قول الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 164]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191].

وقال تعالى في جوامعِ آياته، وبديع خَلْقه وصُنعه:﴿ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الروم: 18 - 27].

ويُروى أن أبا حنيفة - رحمه الله - كان سيفًا على الدهريَّة، وكانوا ينتهزون الفرصة ليقتلوه، فبينما هو يومًا في مسجده قاعد إذ هجم عليه جماعةٌ بسيوف مسلولة، وهمُّوا بقتله، فقال لهم: "أجيبوني عن مسألة ثم افعَلوا ما شئتم" فقالوا له: هاتِ، فقال: "ما تقولون في رجل يقول لكم: إني رأيت سفينةً مشحونة بالأحمال، مملوءةً من الأثقال، وقد احتوشها في لجة البحر أمواجٌ متلاطمة، ورياح مختلفة، وهي مِن بينها تجري مستوية ليس لها ملاَّح يُجريها، ولا متعهِّد يدفعها، هل يجوز ذلك في العقل؟".

قالوا: هذا شيء لا يقبَلُه العقل، فقال أبو حنيفة: "يا سبحان الله! إذا لم يجُزْ في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مُجْرٍ، فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها، وسَعَة أطرافها، وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ؟"، فبكَوا جميعًا وقالوا: صدقتَ، وأغمدوا سيوفهم وتابوا.

وقيل للشافعي - رحمه الله -: ما الدليل على وجود الله؟ فقال: "ورقة الفرصاد (التوت)، طَعمُها ولونها وريحها وطبعها واحد عندكم؟ قالوا: نعم، قال: فتأكلها دودة القز فيخرُجُ منها الحرير، والشاة فيخرج منها البعر، وتأكلها الظباء، فينعقد في نوافحها المسك، فمن الذي جعل هذه الأشياء كذلك مع أن الطبع واحد؟"، فاستحسنوا منه ذلك وأسلموا على يده وهم سبعة عشر.

وسُئل الإمام أحمد بن حنبل عن ذلك فقال: "ها هنا حِصن حصين أملس، ليس له باب ولا منفذ، ظاهرُه كالفضة البيضاء، وباطنه كالإبريز، فبينما هو كذلك إذ انصدع جدارُه فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح (يعني البيضة إذا خرج منها الفرخ)".

وقيل لأعرابي: ما الدليل على وجود الله؟ فقال: البَعْرة تدلُّ على البعير، وأثرُ السير يدل على المسير، سماءٌ ذاتُ أبراج، وأرض ذات فِجاج، أفلا يدل ذلك كلُّه على اللطيف الخبير؟!

2- التفكُّر في آيات القرآن:

التفكُّر في آيات القرآن وعظمته وجلاله، وكيف أن الله جعَله الكتابَ المحفوظ دون سائر الكتب، وكيف أنزله على رسوله، والغوص في معانيه، واستخراج أسراره وأحكامه، وكيف جعله الله هدايةً للنفوس، وشِفاءً من أمراضها، وسبيلًا لنجاتها وسعادتها، وجامعًا لمصالح الناس في المعاش والمعاد؛ كما قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، وقال أيضًا: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، وقال الله - عز وجل -: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: 82]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ﴾ [يونس: 57].

وجاء في الحديث عن عطاءٍ قال: دخلتُ أنا وعبيد بن عمير على عائشةَ رضي الله عنها، فقال عبدالله بن عمير: حدِّثينا بأعجبِ شيء رأيتِه من رسول الله صلى الله عليه وسلم! فبكَتْ وقالت: قام ليلة من الليالي فقال: ((يا عائشة، ذَرِيني أتعبَّدُ لربي))، قالت: قلت: والله إني لأحِبُّ قُربَك، وأحبُّ ما يسرُّك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي، فلم يزل يبكي حتى بلَّ حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلَّ الأرض، وجاء بلال يؤذِنُه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، تبكي وقد غفَر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر؟! قال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ لقد نزلت عليَّ الليلةَ آياتٌ، ويل لمن قرأها ولم يتفكَّر فيها: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [آل عمران: 190])).

فمن الواجب على المؤمن أن يتدبَّر هذا القرآن العظيم، وأن يتفهَّم آياتِه ومعانيَه، وأن يعيش معه برُوحه وفِكْره ووجدانه؛ كما قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].

وقال أيضًا: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، قال العلامة ابن سعدي - رحِمه الله -: "أي: فهلا يتدبَّر هؤلاء المعرِضون القُرآنَ كتاب الله، ويتأمَّلونه حقَّ التَّأمُّل؛ فإنَّهم لو تدبَّروه، لدلَّهم على كلِّ خير، ولحذَّرهم من كلِّ شرٍّ، ولَمَلأ قلوبَهم من الإيمان، وأفئِدتَهم من الإيقان، ولأوْصلَهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية، ولبيَّن لهم الطَّريق الموصِّلة إلى الله، وإلى جنَّته ومكملاتها، ومفسداتها، والطَّريق الموصِّلة إلى العذاب وبأيِّ شيءٍ تُحْذَر، ولعرَّفهم بربِّهم، وأسمائِه وصفاته وإحسانه، ولشوَّقهم إلى الثَّوابِ الجزيل، ورهَّبهم من العقاب الوبيل".

ولا يَخفى علينا ما للتدبُّر من آثارٍ وفوائدَ، وقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتدبَّر القرآن، ويردِّدُه وهو قائم باللَّيل، حتَّى إنَّه في إحدى اللَّيالي قام يردِّد آيةً واحدةً من كتاب الله، وهو يصلِّي لَم يُجاوِزْها حتَّى أصبح، وهي قوله تعالى: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118]؛ رواه أحمد، وهذا يدلُّ على وجوب تدبُّر القرآن الكريم ومُعايشة آياتِه، وفَهْم معانيه وما تدعو إليه.

والقرآن فيه توحيد، ووَعْد ووعيد، وأحكام وأخبار، وقصص وآداب وأخلاق، وآثارها في النَّفس متنوِّعة، وقد كان صحابة النَّبي صلى الله عليه وسلم يقرؤُون ويتدبَّرون ويتأثَّرون، وكان أبو بكر - رضِي الله عنه - رجُلاً أسيفًا رقيقَ القلب، إذا صلَّى بالنَّاس وقرأ كلام الله - تعالى - لا يتمالَكُ نفسَه من البكاء، ومرض عُمر - رضِي الله عنه - من أثرِ تلاوة قول الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ﴾ [الطور: 7، 8](*).

وقال ابن رجب الحنبلي: "وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتهجَّد في ليالي رمضان، ويقرأ قراءة مرتلة لا يمرُّ بآية فيها رحمة إلا سأل، ولا بآية فيها عذاب إلا تعوَّذ، فيجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكُّر، وهذا أفضل الأعمال وأكمَلُها في ليالي العَشْر وغيرها، والله أعلم".

وقال عثمان بن عفَّان - رضي الله عنه -: "لو طهُرت قُلوبُنا ما شبِعَت من كلام ربِّنا"، وقُتِل شهيدًا مظلومًا ودمُه على مصحفه، وأخبار الصَّحابة في هذا كثيرة.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والمطلوب من القُرآن هو فهمُ معانيه، والعملُ به، فإن لم تكُن هذه همَّةَ حافظه لم يكُن من أهل العلم والدِّين"، وصدق القائل:

فشمِّرْ ولُذْ بالله واحفَظْ كتابه ... ففيه الهدى حقًّا وللخير جامعُ

هو الذُّخرُ للملهوف والكَنزُ والرَّجا .. ومنه بلا شكٍّ تُنال المنافعُ

به يَهتدي مَن تاهَ في مَعْمع الهوى ... به يتسلَّى مَن دَهَتْهُ الفجائعُ

3- التفكُّر في الدار الآخرة:

لأن الناس جميعًا صائرون إليها، فإما إلى جنة ونعيم أبدًا، وإما إلى نار وحميم أبدًا، هذا من العموم، فليتفكَّر أين سيحط رحاله بعد نزول الموت به؟ وليتفكَّر العاقل في سَكْرة الموت وما فيها من شدائدَ وأهوال؟ وماذا يكون في القبر من الرياض والحبور، أو الجحيم والسعير؟

قال مُغيثٌ الأسود: زُوروا القبور كلَّ يوم تفكركم، وشاهدوا الموقفَ بقلوبكم، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار، وأشعِروا قلوبكم وأبدانكم ذِكر النار ومقامِعَها وأطباقها، وكان يبكي عند ذلك حتى يُرفع صَريعًا من بينِ أصحابه قد ذهب عقلُه.

وقال عبدالله بن المبارك: مَرَّ رجل برَاهبٍ عند مَقبَرة ومَزبَلَة، فناداه فقال: يا راهب، إن عندك كَنزين من كنوز الدنيا لك فيهما مُعتَبَر، كنز الرجال وكنز الأموال.

ثم ليتفكر الإنسانُ أي الدارين ستنزل أقدامه، وأين محلُّه وراحته، وكيف حاله عند بَعْث الناس من قبورهم؟ وهل سيأخذ كتابه باليمين أم بالشمال من وراء ظهره؟ وهل يرِدُ على الحوض الأعظم يوم الحشر والعطش، أم يقال له: سُحْقًا سُحْقًا؟ وهل يخِفُّ عند الميزان عملُه وكتابه فيكون من الأشقياء، أم يثقُلُ ميزانه ويكون من السعداء؟ وكيف يكون مناقشة حسابه بين يدي ربه؟ وكيف سيرُدُّ مظالم العباد التي اقتطعها منهم في دار الدنيا؟ ثم يتفكَّر في مروره على الصراط، ووُروده على النار، فهل سيكون مخدوشًا مكدوسًا فيها، أم ناجيًا مسلَّمًا منها؟

ثم يتفكر هل يصير إلى الجنة ويكون من أهلها فيدخلها وينعَم بها ويسعَد، ويرى قصورها العالية، وأنهارها الجارية، وحُورَها الصافية، وسائر ألوان النعيم والخلود فيها؟ أم سيصير إلى عذاب النار وجحيمها، فتنصهر أعضاء جسده، وينغص عليه عيشُه وطعامه وشرابه، ويسلسل فيها بالأغلال والسلاسل، ويَجري عليه من عذاب السَّموم، ولباس القَطِران، وطعام الزقُّوم، وشراب الحميم والغِسلين؟ عافنا الله منها.

والقرآن قد بيَّن لنا الدارين، وذكَر لنا الحالينِ؛ قال تعالى: ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ ﴾ [الحاقة: 13 - 37].

فالتفكُّر في آيات الله الكونية، وآيات القرآن الشرعية، والدار الآخرة، مما يُحيي القلب بالإيمان، ويوقِظُ فيه عظمةَ الله ومراقبته، ومجاهدةَ النفس على تعظيم أمرِه ونهيِه، والوقوف عند حدِّه؛ لأنه الربُّ المالك القادر القاهر، ناصيةُ الخَلْق كلِّهم في قدرته، وأرزاقهم عليه، فكيف يستطيع المؤمن الوجِلُ الصادق أن يعصيَ أمرَه، أو يقارف نهيه، وهو يعلَم عظمته وجلاله وقدرته!

قال الحافظ ابن الحنبلي: "والتفكُّر في ملكوت السموات والأرض، وفي أمور الآخرة، وما فيها مِن الوعد والوعيد ونحوِ ذلك مما يزيد الإيمانَ في القلب، وينشأ عنه كثيرٌ من أعمال القلوب؛ كالخشية، والمحبَّةِ، والرَّجاء، والتوكُّل، وغير ذلك، وقد قيل: إنَّ هذا التفكُّر أفضلُ من نوافل الأعمال البدنية".

___________________

(*) انظر الفوائد ومدارج السالكين للإمام ابن القيم، وظاهرة ضعف الإيمان للشيخ محمد صالح المنجد.

   
 

 
 

  العودة إلى الخلف       

  اطبع هذه الصفحة

أضف هذا الموقع للمفضلة لديك