اطبع هذه الصفحة

الرئيسية » بحوث ومقالات الشيخ

أهمية الحذر من الآفات المهلكة على الطريق

 الكاتب: الشيخ عاطف عبد المعز الفيومي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد صلى الله عليه وآله أجمعين. أما بعد: فمن أعلام الهداية على الطريق للسائرين والمشتاقين إلى الجنة ونعيمها وأحوالهم: الحذر الدائم من الآفات والمهلكات على الطريق، وهذا من أوجب الواجبات على كل مؤمن تقيٍّ، وكل سالك سائر إلى الله والدار الآخرة؛ لأن الآفات والقواطع والمُهلكات كثيرة، فإذا لم يأخذ زاده من الحذر والمراقبة، غلبته تلك الآفات والقواطع والمُهلكات، فحرمته من الوصول، وشغلته عن تحقيق السفر والأصول، فمن تلك الآفات والمهلكات التي يجب الحذر الدائم منها ما يلي:

أولاً - الحذر من الشيطان ومداخله:

لأن الشيطان يقطع على السائر إلى الله كل سبيل، ويُزيِّن له كل طرق الشرور والأباطيل، ولهذا جاء في القرآن دعوته الواضحة إلى الحذر من كيد الشيطان الرجيم واتِّباعِه، كما بيَّن القرآن في دعوته مدى عداوة الشيطان للإنسان واستكباره عن السجود له، وكيف أن الشيطان يتَّخذ المكايد والحيَل في إغواء الإنسان وإضلاله وإيقاعه في حبائل الشرك والكبائر والبِدَع والمعاصي وغير ذلك.

ذكر الإمام أحمد عن سَبرة بن أبي فاكه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرُقِه، فقعد له بطريق الإسلام فقال: أتسلم وتذَرُ ذريتك ودِين آبائك، قال: فعصاه وأسلم، قال: وقعد له بطريق الهِجرة، فقال: أتُهاجر وتذر أرضك وسماك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول، فهاجر وعصاه، ثم قعد له في طريق الجهاد وهو جهد النفس والمال، فقال: تُقاتل فتُقتَل فتُنكح المرأة ويقسم المال، قال: فعصاه فجاهد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لمَن فعل ذلك منكم كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة، وإن قُتل كان حقًّا على الله أن يُدخلَه الجنة، وإن غَرِقَ كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة، وإن وقصته دابته كان حقًّا على الله أن يُدخله الجنة)).

فمِن هذا الحديث يتبيَّن لنا مكايد الشيطان التي يَكيدها لإغواء ابن آدم وإبعاده عن الحق الذي أُمر به ودُعي إليه، وحتى يتبين ذلك بوضوح نقف هنا مع مراتب الإغواء والإضلال، التي لا زال الشيطان يحثُّ الخُطى حثيثًا حتى يَصل بالإنسان إليها، وهي ستة مراتب على سبيل الإجمال كما بيَّنها أهل العلم كما يلي:

الأولى - مرتبة الكفر والشرك: فالشيطان يدعو الناس إلى الكفر والشِّرك والضلال، ومُعاداة الله تعالى ورسوله، فإذا ظفر بذلك من ابن آدم، بَرُد أنينه واستراح مِن تعبه معه، هذا أول ما يُريده من العبد، وأول ما يدعوه إليه.

الثانية - مرتبة البدعة: وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي؛ لأن ضررها في الدين، قال سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يُتاب منها والبدعة لا يُتاب منها، فإذا عجَز عن ذلك انتقل إلى التي تليها.

الثالثة - مرتبة الكبائر: والكبائر على اختلاف أنواعها وصوَرِها؛ من الشرك بالله تعالى، والسِّحر، وترك الصلاة، ومنع الزكاة، وعقوق الوالدَين، وشرب الخمر، والزنى واللواط، وسبِّ الدين والصحابة... وغيرها.

الرابعة - الصغائر: والصغائر هذه إذا اجتمعت على عبد ربما أهلكته، خاصة إذا تهاون بها ولم يرعَ لها بالاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إياكم ومحقّرات الذنوب، فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض فجاء كل واحد بعود حطب حتى أوقدوا نارًا عظيمة فطبَخوا واشتتووا)).

الخامسة - المباحات: فإذا عجز الشيطان عن الصغائر شغل العبد بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب، بل عقابها فوات الثواب والأجر، الذي فات عليه في وقت اشتغاله بها، وهذه مرتبة يقع فيها كثير من الصالحين والطيبين دون أن يشعر بذلك إلا من رحم ربك.

السادسة - العمل المفضول: فإذا عجز الشيطان عن شغله بالمُباحات شغله بالعمل المَفضول عما هو أفضل منه في الثواب والأجر حتى يُفوِّت عليه الشيطان ثواب العمل الفاضل؛ كأن يَسير إنسان في مكان وهو يذكر الله تعالى، فإذا رأى المنكر، لم يسعَ إلى تغييره؛ بل يقول له الشيطان: أنت في ذكر وثواب، فلا تشغل نفسك بذلك.

ومن هنا يجب على السائر إلى الله والدار الآخرة أن يحذر هذا اللعين الرجيم، وأن يحتاط منه، وأن يسأل الله أن يحفظه من كيده وشرِّه، وكيف لا يحذر وقد قال الله تعالى في القرآن عن تلك العداوة: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 168]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 168]، وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [الأعراف: 22]، وقال سبحانه: ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [يوسف: 5]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ [الإسراء: 53]، وقال عز وجل: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ [فاطر: 6].

وأما على جهة التفصيل في مداخل الشيطان للإنسان وأبوابه، فهي كثيرة نَذكُر منها:

1- الغضب والشهوة: فإن الغضب هو غول العقل، وإذا ضعفت جند العقل هجم جند الشيطان، ومهما غضب الإنسان لعب الشيطان به كما يَلعب الصبي بالكرة.

2- الحسد والحِرص: فمهما كان العبد حريصًا على كل شيء أعماه حرصه وأصمَّه.

3- الشبع من الطعام: وإن كان حلالاً صافيًا؛ فإن الشبع يُقوِّي الشهوات، والشهوات أسلحة الشيطان.

4- حب التزيُّن: من الأثاث والثياب والدار، فإن الشيطان إذا رأى ذلك غالبًا على قلب الإنسان باضَ فيه وفرَّخ، فلا يزال يدعوه إلى عمارة الدار وتزيين سقوفها وحيطانها وتوسيع أبنيتها، ويدعوه إلى التزين بالثياب والدواب ويَستسخِره فيها طول عمره، وإذا أوقعه في ذلك فقد استغنى أن يعود إليه ثانية؛ فإن بعض ذلك يجرُّه إلى البعض، فلا يزال يؤدّيه من شيء إلى شيء إلى أن يُساق إليه أجله فيموت وهو في سبيل الشيطان واتِّباع الهوى، ويُخشى من ذلك سوءُ العاقبة بالكفر - نعوذ بالله منه.

5- الطمع في الناس: لأنه إذا غلب الطمع على القلب لم يزل الشيطان يُحبِّب إليه التصنُّع والتزين لمن طمع فيه بأنواع الرياء والتلبيس، حتى المطموع فيه كأنه معبوده، فلا يزال يتفكر في حيلة التودد والتحبب إليه، ويدخل كل مدخل للوصول إلى ذلك، وأقل أحواله الثناء عليه بما ليس فيه، والمُداهَنة له بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

6- العجلة وترك التثبت في الأمور، وقال صلى الله عليه وسلم: ((العجلة من الشيطان والتأنّي من الله تعالى))، وقال عز وجل: ﴿ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ [الأنبياء: 37]، وقال تعالى: ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ﴾ [الإسراء: 11]، وقال لنبيّه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ﴾ [طه: 114]، وهذا لأن الأعمال ينبغي أن تكون بعد التبصرة والمعرفة، والتبصرة تحتاج إلى تأمُّل وتمهُّل، والعجلة تمنع من ذلك، وعند الاستعجال يُروِّج الشيطان شره على الإنسان من حيث لا يدري.

7- التعصب للمذاهب والأهواء، والحقد على الخصوم والنظر إليهم بعين الازدراء والاستحقار، وذلك مما يُهلك العباد والفساق جميعًا، فإن الطعن في الناس والاشتغال بذكر نقصِهم صفة مجبولة في الطبع من الصفات السبعية، فإذا خيل إليه الشيطان أن ذلك هو الحق وكان موافقًا لطبعه غلبت حلاوته على قلبه فاشتغل به بكل همّته، وهو بذلك فرحان مسرور يظن أنه يسعى في الدين، وهو ساع في اتباع الشياطين.

8- سوء الظن بالمسلمين: قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ [الحجرات: 12]، فمَن يَحكم بشرٍّ على غيره بالظن حمَلَه الشيطان على أن يطوِّل فيه اللسان بالغِيبة فيهلك، أو يقصّر في القيام بحقوقه أو يتوانى في إكرامه وينظر إليه بعين الاحتقار ويرى نفسه خيرًا منه، وكل ذلك من المهلكات.

9- إطلاق النظر فيما لا يحلُّ، مما حرم الله ورسوله من تتبع العوْرات، والنظر للمُحرَّمات من النساء والمرْدان، وشغل القلب به، وقد نهانا عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن النظرة للمحرَّم سهم مسموم من سهام إبليس للقلب، فكم أوقعت من قتيل في حبال الشهوات! وفي القرآن يقول تعالى في غض البصر: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ [النور: 30، 31]، وقال أحد الصالحين: "من عمَّر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغضَّ بصره عن المحارم، وكفَّ نفسه عن الشبهات، واغتذى بالحلال، لم تُخطئ له فراسة".

10- الخوف على النفس والرزق، وهذا من خفيّ حيل الشيطان؛ لأنه يُضعف التوكل واليقين في القلب، والله تعالى قد ضمن وتكفل لعباده الأمن والرزق، فلا يخشى العبد من فوت رزقه، أو انتقاص أجله؛ قال تعالى: ﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 1 - 4]، وقال سبحانه: ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ﴾ [الذاريات: 22، 23]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 31]، وقال عز وجل: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6].

11- الغلوُّ في الدين؛ لأن الشيطان لا يدع العبد في سعة من أمر دينه، يعبد الله على قدر استطاعته، وفي حدود ما أُمر به، بل يقذف في النفس والقلب أن المحبَّ للدين يبذل له كل شيء، ويستمسك به، ولا يحمل نفسه على الرُّخَص الشرعية، كالفِطر في السفر، أو قصر الصلاة، أو ترك الجماعة في العشاء إذا وُضِعَ العَشاء... أو غيرها، بل عليه بالعزيمة في كل أمر دينه، فيأخذ الشيطان مثل هذا ببعض الحق مع بعض تلبيسه عليه، فيترك رخص الشرع والدين، والله يحب أن تؤتى رخصه، كما تؤتى عزائمه، فيكون كالثلاثة الذين ذهبوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، حتى إن أحدهم قال: لا أتزوج النساء، وقال الآخر: لا أنام الليل، وقال الثالث: وأنا أصوم الدهر لا أفطر، ولا شك أن هذا من التلبيس في الدين والغلو؛ لأن كمال الدين قائم على صحة المتابعة للشارع فيما أمَر، وليس في تزيين الخير للنفس، ولهذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام يذكرُهم ويقول: ((ما بال أقوام يقولون كذا وكذا..)) الحديث، لأن هؤلاء الثلاثة ومن يفعل فعلهم ظنوا أن فعلهم دِين وتعبُّد وقربى إلى الله، وهذا محل تلبيس الشيطان على المتعبِّد؛ أن يوهمه الشيطان أن فعله عبادة وقربى، ومن هنا دخل على أهل التصوف وطلابه وغيرهم من أهل الفِرَق والبِدَع والأهواء، فابتدعوا كثيرًا من البدع والمخالفات، وخالفوا الهُدى والسنَّة، وهم يحسبون فعلهم طاعة وقربى وتدينًا، حتى بلغ بهم الغلو في شيوخهم وأئمتهم، فظنَّت الشيعة الرافضة أن أئمتهم أهل العصمة والإمامة دون غيرهم، وظنت الصوفية أن شيوخهم هم الأقطاب والأبدال والأوتاد، وهم أهل الكرامات والمعجزات دون غيرهم، وهذا عين الغلوِّ ولبُّه.

وقد نهى الله أهل الكتاب عن الغلو في الدين وقال لهم: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة: 77]، وجاء في الحديث الصحيح النهي عنه: ((إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ في الدين))، كما جاء الأمر بالتيسير في موضعه ومتابعة السنَّة، ففي الحديث: ((إن الدين يسْر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا...)).

ثانيًا - الحذر من آفات اللسان:

لأن اللسان قد يكون أصلاً في الدلالة على الخير كالذكر وتلاوة القرآن، والأمر بالمعروف، والنهي عن المُنكَر، وتعليم العلم، والنُّصح للمسلمين، والدعوة إلى الله، وقد يكون أصلاً في الدلالة على الشرِّ والفتن، كالغِيبة والنميمة بين المسلمين، والكذب على الله ورسوله، والغناء الباطل، وقول الزور، ونشر الفتن بين العباد، فاللسان سَيف قاطع، في الخير أو الشر، ولهذا دلت النصوص على وجوب حفظه، والحذر من الطغيان به، فمِن ذلك قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، وقال تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].

وفي الحديث النبوي، عن معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم؟!))، وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله ما أخوفُ ما تخاف عليَّ؟ قال: ((هذا)) وأخذ بلسانه، وعن عقبة بن عامرقال: قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: ((أمسك عليك لسانك...))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)).

وعن أبى هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزلُّ بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب))، وعن عبد الله بن مسعود قال: "والله الذي لا إله إلا هو، ليس شيء أحوج إلى طول سجن من لساني"، وكان يقول: "يا لسان، قل خيرًا تغنم، واسكت عن شر تسلم، مِن قبل أن تندم"، وعن أبى الدرداء قال: "أنصف أذنَيك من فيك، وإنما جعل لك أذنان وفم واحدٌ لتسمع أكثر مما تتكلم"، وعن الحسن البصرى قال: "كانوا يقولون: إن لسان المؤمن وراء قلبه، فإذا أراد أن يتكلم بشيء تدبره بقلبه ثم أمضاه، وإن لسان المنافق أمام قلبه، فإذا همّ بشيء أمضاه بلسانه ولم يتدبره بقلبه".

ثالثًا - الحذر من الفضول في المُباحات:

وإن كان هذا من مداخل الشيطان على النفس والقلب، فإنه يجب الحذر منه والاحتراز؛ لأن انشغال النفس بفضول الكلام وما لا فائدة منه ولا نفْع، وفضول النوم، وفضول الطعام والشراب، وكذلك فضول المخالطة للناس وقطع الأوقات معهم بلا فائدة، كل ذلك مما يفسد القلب فسادًا عظيمًا، وصاحبه لا يشعر به إلا بعد زمان، ويقظة من غفلة، ولهذا فالسائر يحذر منها، ولهذا قال ابن القيم - رحمه الله -: "تركُ فضولِ النظر، والكلام، والاستماع، والمخالطةِ، والأكل، والنوم، فإن هذه الفضولَ تستحيلُ آلامًا وغمومًا، وهمومًا في القلب، تحصُرُه، وتحبِسه، وتضيِّقهُ، ويتعذَّبُ بها، بل غالِبُ عذابِ الدنيا والآخرة منها، فلا إله إلا اللَّهُ، ما أضيق صدر مَن ضرب في كل آفةٍ من هذه الآفات بسهم! وما أنكَدَ عيشَه، وما أسوأ حاله، وما أشدَّ حصرَ قلبه! ولا إله إلا اللَّه، ما أنعمَ عيشَ مَنْ ضرب في كل خَصلةٍ من تلك الخصال المحمودة بسهم، وكانت همَّتُه دائرةً عليها، حائمةً حولها، فلهذا نصيب وافر مِن قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾ [الانفطار: 13]، ولذلك نصيب وافر من قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾ [الانفطار: 14]، وبينهما مراتبُ متفاوتة لا يُحصيها إلا اللَّه تبارك وتعالى".

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "إيَّاكم وفضولَ الكلام، حسبُ امرئ ما بلغ حاجته"، وعن النَّخعي قال: "يَهلِكُ الناسُ في فضول المال والكلام".

وجاء في قوت القلوب: "وينبغي لأهل التوبة أن يحاسبوا نفوسهم في كل طرفة، ويدعوا كل شهوة، ويتركوا الفضول وهي ستة أشياء: ترك فضول الكلام، وترك فضول النظر، وترك فضول المشي، وترك فضول الطعام، والشراب، واللباس، قال: ولا يقوى على ترك الشبهات إلا من ترك الشهوات"، وقال ابن القيم: "مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس، فإن قوة الداعي إلى المعاصي إنما تنشأُ من هذه الفضلات، فإنها تطلب لها مصرفًا فيَضيق عليها المباح فتتعدَّاه إلى الحرام، ومن أعظم الأشياء ضررًا على العبد بطالته وفراغه، فإن النفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يَشغلها بما ينفعها شغلته بما يضره ولا بد"، وقال أيضًا: "وأما فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبوابًا من الشر كلها مداخل للشيطان، فإمساك فضول الكلام يسدُّ عنه تلك الأبواب كلها، وكم من حرب جرَّتها كلمة واحدة!".

وجاء في سيَر أعلام النبلاء عن الفُضَيل بن عياض قال: "خصلتان تُقسيان القلب: كثرة الكلام، وكثرة الأكل"،وجاء في بعض الآثار: "إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة"،وقال الفضيل بن عياض: "إذا خالطت فخالط حسَنَ الخُلق، فإنه لا يدعو إلا إلى خير، وصاحِبُه منه في راحة، ولا تُخالط سيئ الخلق؛ فإنه لا يدعو إلا إلى شرٍّ، وصاحبُه منه في عناء".

رابعًا - الحذر من آفات النفس والقلب:

وليحذر مِن آفات وأمراض القلب والنفس وعلائقها، فهي أول ما يجد من العقبات في سيره، كما قال ابن القيم: "فالنفس جبل عظيم شاق في طريق السير إلى الله - عز وجل - وكل سائر لا طريقَ له إلا على ذلك الجبل، فلا بدَّ أن ينتهي إليه، ولكن منهم من هو شاق عليه، ومنهم من هو سهل عليه، وإنه ليسير على مَن يسَّره الله عليه، وفي ذلك الجبل أودية وشعوب وعقبات ووهاد وشوك وعوسج وعليق وشبرق ولصوص يَقتطعون الطريق على السائرين".

فتطهير النفس والقلب مِن آفاتها، دليل على صدق السائر وصحَّة سَيره، والآفات في القلب والنفس كثيرة؛ منها:

آفة العجب بالنفس والصورة والعمل والمَنطِق والثياب والعلم، وكذلك آفة الكِبر بالمال أو الجاه أو القوة أو العلم أو الجمال الظاهر، وآفة الغرور، وآفة حب الدنيا والتعلُّق بما فيها من التجارات والأموال والجاه وغيرها.

وآفة الرياء في النيات والأقوال والأعمال، والغلِّ والحقد والحسد للمسلمين، وآفة الخوف والرجاء ممَّا سوى الله، وآفة تعلق القلب بالشبهات الباطلة، والشهوات المحرَّمة، من جمع المال، وعشق النساء، والطمع والحِرص... وغيرها، كلها الواجب تزكية القلب والنفس منها، وهذا يكون بمُراعاة أعمال القلب وأحواله، والتوبة والإنابة، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - كما تكون تزكيتها بالمُحاسبة والمعاتبة والمجاهَدة للنفس؛ لأن النفس قد تكون النفسَ الأمَّارة بالسوء والمعصية، أو تكون النفس اللوامة، أو تكون النفس المطمئنة، وهذا بحسب قُربها وبعدها من الإيمان وأعماله ومراتبه.

وجوب محاسبة النفس:

ومحاسبة النفس ومجاهدتها أمر واجب؛ لأنَّ المحاسبة والمجاهدة للنفس تُثمر فيها دوام المراقبة لله في السرِّ والعلن، وكمال استسلامها لصاحبها، فلا تأمرُه إلا بخير، ولا تنقاد له إلا في الطاعة والهُدى، ولهذا قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الحشر: 18-19]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ﴾ [آل عمران: 30].

وقال ابن القيم: "بين العبد وبين الله والجنَّة قنطرة تُقطع بخطوتين؛ خطوة عن نفسه، وخطوة عن الخلق، فيسقط نفسه ويلغيها فيما بينه وبين الناس، ويسقط الناس ويلغيهم فيما بينه وبين الله، فلا يَلتفت إلا إلى مَن دلَّه على الله وعلى الطريق الموصِّلة إليه".

وقال الحسن: "المؤمن قوَّام على نفسه، يُحاسب نفسه لله، وإنما خفَّ الحساب يوم القيامة لقوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر على غير محاسبة"، وقال مالك بن دينار: "رحم الله عبدًا قال لنفسه: ألستِ صاحبة كذا؟ ألستِ صاحبة كذا؟ ثم ذمَّها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله - عز وجل - فكان لها قائدًا"، وعن أبى الدرداء قال: "لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يَمقُت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشدَّ لها مقتًا".

خامسًا - الحذر من المعاصي والذنوب:

لأن الذنوب والمعاصي حجاب عن البصيرة والهدى، وران على القلب، فإذا تخلَّص منها، وعلم عواقبها، واستعان بربه على ذلك، سلم له السير والتوبة، كما سيأتي باب الهداية والخلاص منها، فالذنوب قد تكون من الكبائر، أو تكون من الصغائر، والتوبة منهما واجبة، وترك الذنوب والمعاصي يحتاج إلى معرفة بآثارها على النفس والقلب، كما يحتاج إلى مجاهدة ورياضة، كما يحتاج إلى استعانة وافتقار إلى الله، فهذه ثلاثة أمور مُعينة على تركها والتخلص منها، والصادق مَن وفِّق إليها حق التوفيق.

فأما العواقب والآثار فليتأملها بعين الخوف والوجل من سوء الخاتمة، واستحقاق غضب الله عليه، فمِن آثار الذنوب والمعاصي على النفس والقلب: حرمان العلم، والوحشة في القلب، وتعسير الأمور، ووهن البدن، وحرمان الطاعة، ومحق البركة، وقلة التوفيق، وضيق الصدر، وتولد السيئات، واعتياد الذنوب، وهوان المذنب على الله وعلى الناس، ولعنة البهائم له، ولباس الذل، والطبع على القلب والدخول تحت اللعنة، ومنع إجابة الدعاء، والفساد في البر والبحر، وانعدام الغيرة، وذهاب الحياء، وزوال النعم، ونُزول النقم، والرعب في قلب العاصي، والوقوع في أسر الشيطان، وسوء الخاتمة، وعذاب الآخرة.

قال ابن القيم - رحمه الله -: "طالب الله والدار الآخرة لا يَستقيم له سَيره وطلبه إلا بحبسَين: حبس قلبه في طلبه ومَطلوبه، وحبسه عن الالتفات إلى غيره، وحبس لسانه عما لا يُفيده، وحبسه على ذكر الله وما يزيد في إيمانه ومعرفته، وحبْس جوارحه عن المعاصي والشهوات، وحبسها على الواجبات والمندوبات.

فلا يُفارق الحبس حتى يلقى ربه فيُخلّصه من السجن إلى أوسع فضاء وأطيبِه، ومتى لم يصبر على هذَين الحبسين وفرّ منهما إلى فضاء الشهوات، أعقبه ذلك الحبس الفظيع عند خروجه من الدنيا، فكل خارج من الدنيا إما مُتخلِّص من الحبس وإما ذاهب إلى الحبس، وبالله التوفيق".

نشر في الألوكة

   
 

 
 

  العودة إلى الخلف       

  اطبع هذه الصفحة

أضف هذا الموقع للمفضلة لديك